يأتي شهر الصوم كل عام، ويشيع بين المسلمين شائعة مدعاة ووهم فاسد وهو أن رمضان شهر التراخي والنوم والكسل، رغم أن ذلك يتنافى مع قواعد العقل وأدلة الشرع، ومن ثم يتخففون من العبادة والعمل، ليخلدوا إلى الراحة ويتفرغون للهو والمسليات، والعمل القليل الذي يؤدونه يشوبه كثير من القصور والتفريط، ويصاب الصائمون بضيق الذرع وضيق الصدر بمن حولهم ومن يتعاملون معهم بحجة أنهم صائمون.
وهناك فريق من المسلمين يتفرغون من أعمالهم، ليتأهبوا ويستعدوا للعبادة فقط، ولا مكان عندهم للعمل في هذا الشهر، فهو شهر العبادة، والعبادة فقط، وهو فرصة تتضاعف فيها الأعمال، وتشحن فيها الهمم، ويزداد فيها الإيمان، ويتزود فيها المسلم لباقي العام، “وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى” (البقرة: 197)، ومن ثم ينصرف عن عمله ولا يلقي له بالا.
وفريق آخر يتخفف من عمله الكسبي لا ليعبد الله، ولكن ليصرف وقته أمام التلفاز واللهو والنوم والعبث، حتى يمر الوقت وينقضي الشهر دون أن يشعر بألم الجوع أو مرارة العطش.
بل إن بعضهم يفطر بحجة أن الصيام يضعف الإنتاج، يقول الشيخ محمد الغزالي ساخرًا ومستنكرًا وقاحةَ الذين يفطرون بحجة ضعف الإنتاج: “ويفطر أحدهم في رمضان ويأمر الآخرين بالفطر، ويضع قدمًا على أخرى في مكتبه، وهو يهتك حرمة الشهر، ويشرب القهوة والدخان، لكن لماذا يفعل ذلك، وقد قال الله: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ”. لا.. إن هذا الصوم يضعف الإنتاج، ونحن في عصر يتطلب المزيد منه”.
وما من شك في أن هذا الفريق أو ذاك لا يمثل المنهاج الإسلامي الصحيح، ولا يحقق أيٌّ منهما ما شُرع له الصوم من مقاصد وحكم وغايات، وهما بعيدان كل البعد عن الوسطية والاعتدال اللذين تميزت بهما الشريعة الإسلامية والأمة الإسلامية في غير طغيان ولا إخسار: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً”. (البقرة: 143).
فهو منهج يجمع بين العقل والروح، وبين العبادة والعمل، وبين الشمول والعمق، ويمزج بين العلم والدعوة، وبين الدنيا والآخرة، ويوازن بين مصلحة الفرد والجماعة، وبين حاجات الأجيال المعاصرة، ومتطلبات الأجيال المستقبلة.
وليس الدين أفيون الشعوب ـ كما زعم البعض ـ يُسْكِرُهم ويجعلهم يخلدون إلى الراحة والدعة والكسل، بل هو الذي خرّج أجيالا وربى أمة وصنع حضارة عمرها أكثر من أربعة عشر قرنا، وشرّق وغرب، وسيبلغ ـ كما أخبر المعصوم عليه الصلاة والسلام ـ ما بلغ الليل والنهار.
وليس في الدين فرائض أو أوامر تدعو للتراخي أو الكسل، يقول الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين: “ولم يشرع الدين من العبادات ما يضيق به وقت العمل للحياة مقدار أنملة؛ فنحن نرى الذين هم عن الآخرة غافلون يشغلون جانبًا من أوقاتهم في راحة ولهو، أفلا يحق للمؤمن أن يقضي جزءًا من وقت راحته في الوقوف بين يدي الخالق وابتغاء رضوانه، وهذا الجزء لا يزيد على ساعة في اليوم والليلة إذا شاء؟
ليفعل هذا وليقس حياته بحياة من يصرف أوقاته في جمع المال، وإذا انتقل عنه فإلى راحة ولهو، فإنه يجد من طمأنينة القلب وارتياح النفس ما يجعل عيشه أهنأ وحياته أطيب مصداقَ قوله تعالى: “من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون”. [من مقال له بعنوان: “المدينة الفاضلة في الإسلام”. نشر في عام 1931هـ].
لا يفترقان..
والعمل والعبادة لا يفترقان في التصور الإسلامي، ولا يتعارضان بل كلاهما يستدعي الآخر ويتطلبه؛ لأن العبادة عندنا عمل والعمل عندنا عبادة، فالعمل في لغة القرآن مقرون بالإيمان، فلا تكاد تجد آية فيها عمل إلا مصحوبة بالإيمان، أو إيمانا إلا مصحوبا بالعمل، فتارة يقرن الإيمان بكلمة العمل كقوله تعالى: ” وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ” (البقرة: 25).
وتارة يتبع الإيمان بأمر أو نهي وكلاهما عمل، فالأمر كقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ” (البقرة: 153)، والنهي كقوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى” (البقرة: 264).
وتارة أخرى يأمر بالعمل أمرا صريحا مباشرا فيقول: “وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (التوبة: 105).
ومن هنا فالإيمان والعبادة مقرونان بالعمل، فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بغير إيمان، وإذا كان العمل عبادة فلا تعارض بين العمل والعبادة.
الرسول أسوة
وكان الرسول ـ ﷺ ـ يجمع بين العبادة والعمل انطلاقا من هذا التصور ، فلم يُرْوَ عنه قول أو فعل أو تقرير يجعل العمل والعبادة متعارضين بل العكس هو الذي روي، وأحيانا يرفع العبادة التي تمتلئ بالعمل على العبادة التي يتمحض فيها معنى التعبد ويقدمها عليها، مثل ما حدث حين خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: “أولئك العصاة، أولئك العصاة.
بل إن رجلا ذهب إلى النبي ـ ﷺ ـ يستأذنه في الجهاد، فقال له النبي ـ ﷺ ـ: أحيٌّ والداك؟ قال نعم، قال ففيهما فجاهد.
وخلَّف النبي ـ ﷺ ـ عليا ـ رضي الله عنه ـ في الهجرة ليرد الأمانات إلى أهلها، وكان ابن عباس يقطع اعتكافه من أجل قضاء مصالح الناس وحوائجهم، فلما سئل في ذلك قال: هكذا كان النبي ﷺ.
وهذا عبد الله بن المبارك الذي كان يفضل الجهاد مع أداء الفرائض على الانقطاع الكامل للعبادة كما كان الفضل بن عياض الذي أرسل له ابن المبارك رسالة كتب فيها شعرا يقول فيه:
يا عابـد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبـادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه فنحورنا بدمائنـا تتخضـب
أو كان يتعب خيله في باطـل فخيولنا يوم الصبيحـة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانـا من مقـال نبينـا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
التاريخ شاهد عيان
وتاريخ المسلمين الطويل شاهد على أن هذا الشهر هو شهر الإنتاج والعمل، وشهر الانتصارات الكبرى، حين تهب ريح الإيمان، ونسمات التقوى، وتتعالى صيحات الله أكبر فيتنزل النصر من الله تعالى، على قلة العَدد وقلة العُدد، ابتداء من بدر، ومرورا بفتح مكة وحطين وعين جالوت، وانتهاء بحرب العاشر من رمضان 1393هـ التي نحيا على أطلالها حتى اليوم.
فهل شهر رمضان بعد هذا كله شهر التراخي والكسل وعدم إتقان العمل، ونقول إن الدين أفيون الشعوب؟!
إن العمل والإنتاج والأداء الأفضل عبادة لله علي قدم المساواة مع عبادات الصلاة والصيام والقيام، بل إن هذه العبادات مع العمل تجعل أجر العبادة أكبر وأفضل عند الله؛ لأن العمل فرض وتكليف والفرار منه فرار من أمر إسلامي وواجب ديني، وما أظن في ذلك شكا أو خلافا بين فقهاء.
إن المسلمين هم الذين حوَّلوا هذا الشهر إلى شهر كسل وتراخٍ بما يسهرونه من الليل وينامونه من النهار، ولو أنهم صاموا حق الصيام، وتحرَّوا الوصول إلى مقاصد الصيام العظيمة لتحقق للأمة في هذا الشهر من الكفاية الإنتاجية ما يكفيها باقي السنة.. صحيح أن الصوم يضعف البدن، لكنه يقوِّي العزم، ويشدُّ الظهر، ويعوِّد الصبر، ويربِّي المؤمن على طول التحمل وقوة الإرادة.
وذلك لأن المعدة تخلو مما يثقل البدن ويرهقه، فتنطلق الروح ويسعد القلب ويرقى؛ وفي هذا الإطار نفهم حديث النبي ـ ﷺ ـ: “للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه”.
أوهام فاسدة
لم يبق من حجة لهذه الأوهام الفاسدة والعادات السيئة التي تذهب بأجر الصيام، وتجعل الصيام لا يحقق مقاصده مع هذه السلوكيات الفاسدة بعد أن اتضح من منهج القرآن ومنهج الرسول ـ عليه السلام ـ والتاريخ والواقع أننا نحن الذين صنعنا هذه الترهات التي لا حقيقة لها، ولا دليل عليها من عقل أو شرع.
يبقى على المسلم أن يعود لخالص دينه، ويعمل جاهدا على تحقيق المعاني السامية للصيام؛ حتى تعود على النفس والعقل والبدن ثمراته، وتتحقق فيه مقاصده كما أراد الله، فيحرص على وقته ـ والوقت هو الحياة ـ ولا يصرف جزءا منه في غير فائدة، وينام مبكرا، وإن استطاع القيلولة فحسن.
وليعلم أن العمل مع الصيام يزيد ثواب الصائم، ويرفع من قيمة العمل وأجره يوم الحساب، وليحذر شياطين الجن والإنس حتى لا يمر الشهر وينفض السوق ويخرج منه خائبا خاسرا.