قبل ايام قليلة من دخول شهر رمضان الكريم العشر الأخيرة، يبدو أن فيروس كورونا ربح المعركة، فقد افتقد المسلمون في  العالم إلى المساجد العامرة و التجمعات العائلية والأسواق المزدحمة والمأكولات المميزة، لكن أكثر فئة قد تشعر بهذا الألم هي فئة المهجر على اختلاف أصولهم وطبائعهم وعاداتهم وتقاليدهم والدول التي تستضيفهم.

يأتي شهر رمضان هذا العام، في ظل توترات عامة يعيشها العرب والمسلمون في مهجرهم حول العالم. بيد أن أكثر ما يفتقده أغلب هؤلاء ما يسمونه “الاشتياق إلى أجواء رمضانية في البلاد الأصلية”، لكن رمضان هذه السنة وسمته كورونا بتعميم عالمي للأجواء الرمضانية تسري طقوسه على كل البلدان.

لكن رغم ذلك بالنسبة للمهاجرين، رمضان وسط الأهل والأحباب والاصدقاء والجيران له طعم خاص، حتى وإن حكمت كورونا بأحكامها .

في روسيا، حيث تنتشر تلك الأجواء في بعض الجمهوريات المسلمة، يعيش نحو مليوني مسلم في موسكو وغيرها من دون أية مظاهر رمضانية.

وفيها مثل أميركا وكندا وفرنسا وبقية دول المهجر، يجتهد العرب والمسلمون لخلق بعض من أجواء البلاد الأصلية. فيتجه هؤلاء لإقامة نشاطات وفعاليات عبر  مواقع التواصل الاجتماعي. وبالرغم من مخاوف تصاعد الوباء إلا أن الجميع يسعى لحوارات تخفف التوتر وتساعد على التأقلم مع ساعات الصوم الطويلة.

القطب الشمالي..لا وجود لكورونا

من نماذج رمضان في المهجر ، في منطقة القطب الشمالي الكندية، حيث لا وجود لرائحة كورونا الكريهة، يعاني المسلمون أمرا آخر، حيث تصل ساعات الصوم إلى 23ساعة، ففي قرية ” كنكرسكن” تبدو  أيام رمضان صعبة للغاية، فالشمس لا تغرب إلا في الثانية عشرة ليلا، وبعد ساعة تشرق ثانية. ولدى المسلمين هناك وقت قصير للإفطار والسحور، لذا فقد حصلوا على فتوى بالصوم  وفق تقويم أقرب مدينة لنهم، وهو ما سيكون على توقيت مدينة مونتريال، أي17 ساعة صوم فقط.

ومع ذلك يقول سكان هذه المناطق البعيدة، أنهم على استعداد للصوم 24 ساعة، على أن يعيشوا في أجواء فيروس كورونا الذي يرعبهم عن بعد، ويدركون مدى خطورته على حياة الإنسان من جهة، وتأثيره على عاداته وتقاليده ونمط حياته من جهة ثانية.

وفي بعض المناطق الأميركية تصل ساعات الصيام إلى 14 ساعة. ويأتي رمضان هذا العام في ظل أجواء متوترة للغاية بسبب وباء كورونا الذي يسجل أكبر نسب الإصابات والوفيات في أميركا. وعلى الرغم من شعور الكثير من العرب والأميركيين بالتضييق عليهم بسبب سياسات الرئيس دونالد ترامب إلا أن الشعور بحلاوة رمضان من جهة أخرى قائم بشكل قوي، بسبب تعاطف ودعم الكثير من الأميركان مع الجاليات المسلمة والعربية، خاصة في هذا الوقت الصعب الذي استدعى من الجميع الصبر والصلاة حتى تمر هذه الأزمة.

ولتخفيف التوتر والتعاون مع الجاليات عقدت شرطة نيويورك لقاءات مع أبناء الجالية المسلمة والعربية، في سياق تسيير الحياة خلال رمضان في ظل وجود فيروس كورونا.

ساعات طويلة

وأيضا في مناطق روسية معينة حيث تزيد ساعات الصيام عن 19 ساعة. يواجه الصائمون كورونا مع مشكلة التأقلم مع غياب الأجواء الرمضانية ومعاناة الجوع والعطش لساعات النهار الطويلة مقارنة بدول أخرى.

وتقدم اختصاصية التغذية، غوزيل أوفتشينيكوفا، عددا من النصائح في ظل هذه الظروف الصعبة، حيث يفضل تناول وجبات طبيعية تم طبخها بالمنزل، وتفادي الدهون، لأنها قد تكون ثقيلة على الجهاز الهضمي.كما يمكن تناول لحم وسمك مطهو ببطء أو داخل فرن أو على البخار، أو حساء وحبوب وخضروات وفواكه وزيوت. ويفضل تجنب المخبوزات، واستبدالها بالفواكه المجففة أو العسل.

وفي ما يتعلق بالمشروبات يجب تفادي زيادة الضغط على الكلى، فيفضل الامتناع عن تناول الشاي والقهوة مع الاكتفاء بلتر أو لتر ونصف اللتر من الماء والعصائر الطبيعية. وبما أنه ليس هناك وقت كاف بين المغرب والفجر، تنصح أوفتشينيكوفا بتناول أطعمة خفيفة أثناء السحور مثل الفواكه المجففة والجبنة البيضاء ووجبات نباتية قليلة الدهون.

شعائر وهويات وحجر منزلي!

ومن نماذج رمضان في المهجر ، في فرنسا حيث الجالية السورية كبيرة، نجد شهر رمضان بالنسبة للسوريين في فرنسا، ليس له الخصوصية نفسها، مثلما هو لدى باقي الجاليات الإسلامية، وخاصة المغاربية منها، التي يجمعها المسجد الكبير. ولكن هذا لا يعني غياب عناصر التميز ، فإذا كانت غالبية السوريين يعتبرون خصوصية جوهر رمضان حضارية وشعائرية صرفة، فهناك جزء من السوريين يعتبره طقسا ثقافيا، وجوهره أقرب للإسلام الأوروبي – إن صح التعبير – إسلام يمزج بين خصوصية الثقافة الأصلية، مع قدرة على الاندماج مع هوية البلد المضيف.

الكثير من السوريين في رمضان يقصدون المطاعم السورية المنتشرة في باريس، على قلتها، لكنها خاوية هذا العام، بفضل الهجرة التي تبعث على الحزن والسعادة في آن واحد، والحجر المنزلي. وحينما تتجول في هذا الشهر الفضيل في الأمكنة التي يرتادها السوريون لا تحتاج لطرح الأسئلة، وجوه الناس الغائبة عنها، البسمة كافية لتجيب على كل تساؤلاتك، النكبة حاضرة في كل وقت، ولكن في رمضان الجرعة تمسي كارثية، وهذا يبدو جلياً للعلن من خلال الأحاديث الجارية والمتبادلة في ما بينهم.

ويبــقى القاسم المشـترك بين تنوع الـــجالية الســورية، الحـنين إلى روح الألفة والمــشاركة في مــدنهم وبلداتهم ومــكانهم الأم، فــيلازم صــيامهم الــشــعور بالــــحنين إلى هذه الأمكنة والأسى والحزن لبعدهم القسري عنها.

حالة خاصة جدا

وفي إيطاليا، يحل شهر رمضان المبارك هذه السنة، في ظروف إستثنائية بكل المقاييس ، بسبب الحجر الصحي الناتج عن وباء كورونا، إذ غابت عن هذا الشهر الفضيل بعض مظاهر التعبد المعتادة ، لكن أتيحت ، بالمقابل ، فرصة تقوية الأواصر والتلاحم بين المسلمين.

ولاتقاء شر وباء كورونا قررت السلطات الإيطالية، على غرار معظم دول العالم ، إغلاق المساجد وحظر الشعائر الدينية التي تقتضي احتشاد المؤمنين ، وإلغاء موائد الرحمان ، ما جعل شعائر هذا الشهر الفضيل تقام في البيوت في أجواء روحانية يتقاسمها مسلمو هذ البلد الأوروبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

فمع افتقادهم  للصلاة في المسجد وموائد الإفطار الجماعي ، هناك جانب إيجابي للحجر الصحي ، يتمثل في الإقبال غير المسبوق للجاليات المسلمة على الدروس الدينية ، يسرته التكنولوجيات الحديثة ، وكذا في التأسيس لعادات أسرية جديدة لم تكن موجودة من قبل.

بل أن عدد المسلمين عامة، الذين يستفيدون خلال هذه السنة من الدروس الدينية عبر تقنية الفيديو ، وهم في بيوتهم ، يفوق بثلاث مرات عدد من كانوا يحضرونها في المسجد في الأعوام الماضية.

ورغم اختفاء موائد الرحمن من مختلف المناطق الإيطالية في أوج الأزمة الصحية والاقتصادية الناجمة عن وباء كورونا ، تزايد منسوب التضامن والتآزر والتكافل بكل أنواعه بين أفراد الجاليات المسلمة الذين يقوم الكثير منهم بإعداد وجبات وتوصيلها إلى الأشخاص المعوزين والأشخاص الذين لا مأوى لهم ، كما يقدمون لهم مواد غذائية في إطار مبادرات توفق بين واجب القيام بأعمال الخير ، والالتزام ، في الوقت ذاته ، بالإجراءات الاحترازية لمنع انتشار الفيروس.

وتراهن السلطات الإيطالية على التباعد الاجتماعي كإجراء وقائي رئيسي للحيلولة دون انتقال العدوى، وهو أمر يأخذه المقيمون المسلمون في هذا البلد الأوروبي على محمل الجد ، خلال قيامهم بمبادراتهم الخيرية وإحيائهم للأجواء الروحانية للشهر الفضيل وشعائره.

وإذا كانت أزمة فيروس كورونا المستجد قد حجبت بعض العادات الرمضانية للمسلمي المهجر، إلا أنها ساهمت ، في المقابل ، في تقوية أواصر المحبة بينهم ، وجعلتهم يستوعبون بشكل أكبر جوهر الصوم والغاية الحقيقية من هذا الشهر الفضيل.