إن إحياء السنة ومكانتها وبيان صحيحها من سقيمها ونشرها بين المسلمين من آكد الأمور وأحقها بالرعاية؛ ولا سيما في العصور الأخيرة التي لم يكن لعلم الحديث النبوي من القداسة والحرمة والتقدير المطلوب، حيث وقف منها بعضهم – أي أذناب المستشرقين وأشباههم- موقف التشكيك، ونسج الشبهات، وطعن في النقلة،وزَيَّفوا صحيح السنة، وصحّحوا سقيمها وما دونها للغرض السيئ، وهناك طرف آخر من الناس وقف موقف القبول والتسليم لكل حديث منسوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وخاصة إذا كان مشهورا، وهذا قبيح المسلك وخطر على ديانة المرء قلبا وقالبا. وقد خوّل الله بعض أهل العلم في هذا العصر من رواد علم الحديث، بذلوا جهودا علمية عظيمة في استنهاض الهمم إلى الاشتغال بعلم الحديث، وإلى الاهتداء بالسنة النبوية والدفاع عن بيضتها.

كان على رأس هؤلاء الأئمة: أبو الأشبال أحمد شاكر، والمعلمى، والألباني، الذين جمعوا بين الجانب النظري والجانب التطبيقي في علم الحديث، وهم قبة الفلك ومصابيح الدجى في تبصير وتنوير الأذهان، وتثقيف العقول، وتنبيه الغافلين بأهمية علم الحديث ومكانته، وقد مشى الشيوخ الثلاثة في خدمة السنة النبوية وتقريبها بين يدي الأمة أشواطا طويلا، وقطعوا فيها مراحلا بعيدة، تتجلى ثمارها من ثلاثة نواحي: 1- ناحية التصحيح والتعليل وبما فيه من فقه السنة. 2- ناحية تحقيق وتهذيب كتب الحديث. 3- ناحية دفاع عن السنة وتفنيد شبه منكريها.

رواد تجديد معالم السنة النبوية وعلومها في هذا العصر

أولا:أبو الأشبال “مجدد علم الحديث”(ت:1377هـ)

كان الشيخ أحمد شاكر أحد مجددي علوم السنة ورواد علم الحديث، وكان ممن هيأه الله سبحانه وتعالى لخدمتها في الآونة الأخيرة من مطلع العصر الحديث، وله قصب السبق ويد طولى في التفتيش عن أحوال نقلة الأخبار وتمييز بين الصحاح والسقيم من الأحاديث، كما رأينا يده بيضاء في نقد أسانيد “تفسير الطبري” وغيره من الكتب، ونجد همته نبيلة تجاه مسند الإمام أحمد في كيفية تقريبه للناس، وكان ذلك أمنيته العزيزة القديمة، يقول رحمه الله:” ورأيت أن خير ما تخدم به علوم الحديث، أن يوفق رجل لتقريب هذا المسند الأعظم للناس ، حتى تعم فائدته، وحتى يكون للناس إماماً ، وتمنيت أن أكون ذلك الرجل … فكان هذا المقصد أمينة حياتي، وغاية همي، سنين طويلة، أن أقرب هذا المسند للناس حتى وفقني الله منذ أكثر من خمسة عشر عاما”[1] وقد قام بتخريج من المسند حوالى “8099” حديثا مبينا لدرجة كل حديث.

 كما أنه أتحف العالم الإسلامي بأبحاثه القيمة الذائعة الشائعة والتحقيقات المنيرة لعديدة من أمهات الكتب السنة، ويمثل الشيخ مدرسة الاقتداء في منهج التحقيق العلمي، وإن كثيرا من علماء العصر يعرجون على تحقيقاته ويروجونها وينشدون بها، كتحقيقه لمختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري، ومعه معالم السنن للخطابي، وتهذيب ابن قيم الجوزية، بالاشتراك مع الشيخ محمد حامد الفقي. وتحقيقه لجامع الترمذي عن عدة نسخ وغيرهما من نفائس آثاره في التحقيق رحمه الله تعالى.

وهو أيضا من أولئك أفذاذ الأمة الذوّادين عن حياض السنة النبوية، ومن حماة بيضة شرفها وعزتها، وتتبلور – آثاره في هذا الصدد – جلية واضحة في كثير من كتاباته ومقالاته فيما نشرته مجلة ” الهدي النبوي ” التي تصدر من القاهرة وقتئذ، وتلك المجلة عبارة عن لسان حال جماعة أنصار السنة المحمدية الذين يقمعون البواطل التي نسجت حول السنة والدين بصفة عامة، وكان الشيخ أحمد أحد المشاركين في هذه الجماعة فرحمه الله تعالى.

ثالثا: الشيخ المعلمي “طبيب علل الحديث” (ت:1386ه)

من أشهر نوابغ علماء الحديث فى هذا العصر الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي، أحد حماة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ورواد علوم الأحاديث، وعلى وجه الأخص فهو من أولئك القلة الذين يرجع إليهم في علم العلل، وله ملكة نادرة في تعليل الأخبار، ومن نظر في كتب الشيخ يبصر ذلك واضحا، ككتابه “التنكيل” وتواتر بين أهل العلم وصفه بذهبي العصر إشارة إلى قريحته الثاقبة في علل الحديث.

وللشيخ المعلمي تميز ملموس في عملية التحقيق للكتب وتعليقات مفيدة مصحوبة لها، وخاصة في تحقيقه لأمهات كتب علم الرجال، مثل كتاب “تذكرة الحفاظ” للذهبي، وغير ذلك من الكتب المشهورة المتادولة.

كما أنه شارك في الذب عن جناب السنة النبوية وأعلامها، ومن أكبر شاهد على ذلك كتاباه ” الأنوار الكاشفة ” في الرد على كتاب ” أضواء على السنة المحمدية” لمحمود أبي رية. و” التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطل ” وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ثالثا: الألباني محدث العصر (ت:1419ه)

يعد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من الجهابذ الفحول ممن يشار إليه بالبنان في خدمة الحديث وعلومه في هذا العصر، وقد نذر حياته لمشروع تقريب السنة بين يدى الأمة وضحى به عمره، حتى قال رحمه الله: وأهم المشروعات العلمية عندي هو ما أسميته: ” تقريب السنة بين يدى الأمة” فإني قد أفنيت فيه شبابي، وقيت فيه كهولتي، وأتمم به الآن شيخوختي.”[2] 

كان الشيخ مستكثرا في مجال الصناعة الحديثية أعني مجال التصحيح والتضعيف، فإنه قد قام بالحكم على آلاف من الأحاديث المشهورة المنتشرة بين العوام، وبين صحيحها ليعملوا بها، وضعيفها وموضوعها لتجتنب، ولا أدل على ذلك ما سجلها في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” المحتوية على 4035 حديثا. وهذا يعتبر من القسم الذي يجوز العمل به حسب تحقيق الشيخ، بينما تحتوي “سلسلة الأحاديث الضعيفة” على 7162 حديثا مما لا يصلح الاحتجاج بها.

ولم تكن دائرة جهود الشيخ محصورة على الجانب الحديثي فحسب، بل كرّس مجهوداته في تحقيق جملة من كتب أئمة أهل السنة، مخرجا أحاديثها ومعلقا عليها، ومن هذه الكتب: “كتاب شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي” خرج الشيخ أحاديث الكتاب مع بعض الاستدركات الحديثية على ابن أبي العز – رحمه الله – شارح الكتاب، وأردف الكتاب أيضا بالتعليقات المفيدة على بعض المسائل.

وكما أن للشيخ حظا وافرا من حراسة قلعة السنة من عبث العابثين، إذ يعد من الذين لهم سعي مشكور في الدفاع عن ثورة الشبهات التي اجتاحت قدسية السنة في هذا الزمان، وقد بذل جهودا كبيرا في الذب عنها، تشهد لذلك عشرات المصنفات من تأليفاته في هذا الصدد، مثل كتابه” حديث الآحاد وحجيته في العقائد والأحكام”، حيث فصل فيه منزلة السنة في الإسلام وبطلان محاولات الخلف لمخالفتها، وفساد ما تذرعوا به لذلك من القياس، وبطلان قاعدة” حديث الآحاد لا يحتج به في العقائد”.

كما كان مجاهدا بقلمه كان كذلك بلسانه مجاهدا في الدفاع عن السنة، وله في ذلك دروس منتشرة معروفة ومناظرة كثيرة على هذا السبيل فرحمه الله تعالى. ولا شك أنه كان لهؤلاء الشيوخ الثلاثة الفضلاء علماء لهم مشاركة طيبة في توعية أهل العصر بمكانة السنة وعلومها كالشيخ رشيد رضا وغيره، ولكن المذكورين هنا هم أبرز رواد علم الحديث، وأعلاهم كعبا وشهرة وعناية، وأكثرهم رسوخا وممارسة لهذا الشأن، مع وجود من يدانيهم وربما من يساويهم أو يفوقهم ممن جاء بعدهم، إلا أنه سيبقى لهم فضل الأسبقية فى نشر ثقافة علم الحديث وتبليغ السنة النبوية بجميع الوسائل في العصر الحديث، فأهل الحديث المعاصرون عيال عليهم.


[1] الصبح السافر في حياة العلامة أحمد شاكر.ص:49

[2] حياة العلامة الألباني، ص:27- 28