سعى الباحث الدكتور عبد الرزاق بلعقروز،في كتابه الجديد: “روح القيم وحرية المفاهيم/ نحو السير لإعادة الترابط والتكامل بين منظومة القيم والعلوم الاجتماعية” لرسم معالم لمحاولة جديدة في ربط منظومة القيم بالمجال الرحب للعلوم الاجتماعية، بعد أن جنحت ميادينها ومجالاتها نحو رؤى ومفاهيم طافحة بالمطلق واللامنتهي، متجاوزة لكلّ القيم الإنسانية.
في هذا الكتاب الجديد الصادر خلال العام 2018م عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع (بيروت)، حاول الدكتور بلعقروز أستاذ الفلسفة بجامعة سطيف ،أن يقرأ الصيغ التي كانت تحدد الإطار الفكري والمعرفي للعقل، فقد “مرّ على العقل حقبا زمنية ونموذجية؛ زمنية بحكم أن المفهوم الديكارتي للعقل جرى صياغته في سياق زمني مخصوص، ونموذجي لكونه صدى للنموذج المعرفي الذي تشكل عقب الثورة العلمية وتحرُّر الفكر العلمي من الهيمنة المدرسية في صورتها المنطقية.
تطور مفاهيمي
هذه الحقب تعبّر عن تغيّر معاني العقل وعدم ثباتها، وتقلبها من رؤية إلى أخرى، ومن هنا جاءت محاولة بلعقروز الأخذ بالعقل إلى “رحابة القيمة، ورحابة التعقُّلية الرُّوحية، التي لا تلغي الاعتبارات المعنوية؛ وإنما تُنْجِزُ فعل القلب الذي أرَّخ لنسيان العلاقة بين القيمة والمعرفة، إذ العقل المنفصل عن القيمة، والذي هو تأويل للعالم غريب عن كرتنا الأرضية، شهد أوَجّه في الأنساق العلمية الطَّبيعية كحقبة أولى والإنسانية كحقبة تالية؛ لم يعد يلقى الإجماع المعرفي في الإبستمولوجيا المعاصرة، بخاصة الإبستمولوجيا التّركيبية منها، بل أضحى الملمح الأصيل للعقلانية هو ضرورة أن تعترف بحدودها، وأنَّ شرط إمكانها هو الانفتاح على الوجدان والغائية والطبيعة التركيبية للعلوم (ثقافية، اجتماعية، ثقافية، إنثربولوجية)”، كل ذلك دفعا بالعقل إلى وضع أكثر حرية من تلك المبادئ التي ظلت لحقبات زمنية طويلة تقوده وتتحكم في مساره، ومن ثم الوصول إلى أفق القيمة، حيث يتحدد بالوعي القيمي الذي يبرز معنى منظومة القيم التي يقصدها الباحث حيث تتقاطعها مفاهيم النّفس والعاطفي والشعور كل ذلك ممزوجا بروح الإيمان، وليس مجرد الإلتزام السلوكي الذي تحدده مجموعة من القوانين الأخلاقية الجافة الخالية من روح الدين، وانطلاقا من الضبط الصارم للمفاهيم.
حاول الباحث في القسم الأول من كتابه “فتح ورشة نقدية حول صلة القيم بالعلوم الاجتماعية” وخصوصا في علم النفس، حيث وضع هذا العلم أمام محك الدراسات الفلسفية النقدية، التي تقوم على نقد الأسس المعرفية، لأن هذا العلم كما يقول: “انخرط وبصورة لاواعية ضمن مبادئ العقل الديكارتية، وضمن إرادة التماثل منهجيا مع نسق العلوم الطبيعية؛ لم يثمر ما كان يقصده، أي الأخذ بيد الإنسان إلى الصحة النّفسية، والإبانة عن دوافع سلوكه قصد التحكم فيها، والاستيلاء على نسقها الاشتغالي. فكان مرمانا، أمام هذا، هو إعادة الصلة الممزقة بين القيم وعلم النّفس، مستفيدين من معطيات التحليل النماذجي الذي بات من أقوى الأدوات المنهجية في الرؤية في التّحليل والتأسيس”.
ثم تعرض الباحث بالنقد لما أسماه بـ”الحداثة الإعلامية” دون المرور على طرق النقد المتداولة في علوم الإعلام والاتصال، فكان التناول بعيدا عن هذه المحددات المنهجية المتداولة في هذا الحقل المعرفي، الذي غالبا ما يكون قد حدد التعامل مع الأحداث اليومية للفرد في نقطة من العالم، ومن ثمّ يضبط السلوكات الأخلاقية ضمن صيغ لا تنتمي إلاَّ إلى حقله المعرفي الخاص، ويمكنها تحديد “قيمة الحقيقة والمعرفة؛ ومضامين أخرى كذلك للأخلاقية الإنسانية بما هي الفعل الذي يعدّ أثر من آثار الفطرة الأخلاقية المستقيمة”.
هذه المضامين التي تقدّمها الخريطة الإدراكية الإعلامية، إن هي إلا إفقاد لقيمة الحقيقة الواقعية؛ والرفع من قيمة المُختَلق والمختَلقات؛ والمعرفة أضْحَتْ أداة في يد إرادات القوى لأجل التملّك والحيازة. وبسبب هذا، فإن “المسلك هو؛ الإعلام الموصوف بالحياء؛ وليس المنفصل عنه والمستغرق في ثقافة الجسد، وإرادات القوى لأجل التملّك والهيمنة”.
سؤال الفعل
في الفصل الأخير من هذا القسم تطرق الباحث إلى سؤال الفعل “مفهوماً وإشكالاً وتحديات؛ حيث الفعل المنفصل عن القيم، لا يُقَوّْى الذّات ولا يُثبتها؛ ولا يفجّر مكنونانتها الروحية حتى تنطلق وتسود وبما يرفعها إلى مستوى التحديات التي باتت تسم الحياة المعاصرة” مستشهدا بما ذهب إليه فيلسوف الإسلام الكبير محمد إقبال الذي “رفض الفعل بمعناه التأمّلي المنفصل عن تدبير الحياة، وربط بين قوة الروح وسموها؛ وبين تجددها وحركيتها وسريانها في مناكب الوجود؛ فأضحت الروح بما هي الطاقة الخلاّقة مانحة الهوية النوعية للفعل” الذي يترجم إلى سلوك اجتماعي وفق قيم أخلاقية سامية.
في القسم الثاني من الكتاب حاول الدكتور بلعقروز تناول مجموعة من الإشكاليات انطلاقا من قضية “إبداع المفاهيم”، حيث أبعد الفكر العربي الإسلامي المعاصر المصطلحات لصالح المفاهيم، فنسي ضمن هذا الاختيار “قوانين تَشُكُّل المفاهيم، وما هي الشروط اللغوية والتداولية التي تَنفذت مقولاتها في المفاهيم، فلا هو تحقق بطريقة الفلاسفة في إبداع مفاهيمهم، ولا هو وصل إلى مبتغاه، أي إنجاز فعل التحرر والاستقلال المفهومي. فكان أن دخل في حالة القلق المعرفي؛ والتّيه المفهومي؛ والاتباع لمفاهيم الغير؛ وكأنّها جاءت من عالم خارق. ولأجل هذا القلق، أتينا بنماذج ، وعرضنا طريقتها في إنجاز فعل التحرر، عن طريق الإستقلال بإشكالات محدّدة، وبمفاهيم موقعة بأسماء واضعيها”، ولم يستثن من هذه القاعدة إلاّ الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن.
وحاول الباحث في ثنايا الكتاب طرح نموذج تطبيقي في إبداع المفاهيم، فقد صاغ مفهوما جديدا أسماه بـ”مفهوم المخالقة” المقابل لمفهوم المواطنة الذي يتجاوزه ذلك أنه ـ أي مفهوم المخالقة ـ يوسع من مدلول الانتماء “بأن يتعدّى فكرة المواطن الصَّالح إلى فكرة الإنسان الصالح، لأن انبناء مفهوم المخالقة، هو على قيم الفطرة الكلية، وليس قيم الثقافة القطرية”، وضمن فكرة الإبداع في إطار المجال التداولي، صاغ أيضا مفهوما جديدا أسماه بـ” إنسان أحسن تقويم” بوصفه نموذج الإنسان في حالة الكمال الفطري، منبها على حالة الوعي باستخدام المصطلحات والمفاهيم في المجال التداولي العربي الإسلامي.