السلوك البشري العدواني مستقبح في الفطر السليمة، وما وظيفة الأديان إلا التأكيد على قبحه، والتوعد على فعله، والترغيب في البعد عنه.

وإذا كان العدوان مستقبحا كله، فإنه أشد ما يكون قبيحا وقت أن يكون على الضعيف في جسمه،  أو الفقير في ماله، أو الصغير في سنه، أو  المهيض في بنيانه، أو المبتلى في  عقله، ولبشاعة العدوان حينئذ، ولخروج المعتدي حينئذ من إنسانيته إلى سلوك الحيوانات الضارية، أسماه الناس باسم خاص به، فأطلقوا عليه “ التنمر” .

التنمر صورة مصغرة من الاحتلال ، والاستبداد ، والبلطجة الاجتماعية – وخاصة في وسائل التواصل الإجتماعي – فالمشترك في كل هذه الظواهر العدوانية، هو اعتداء القوي على الضعيف.

المسلم من سلم منه المسلمون

وللإسلام قصب السبق في معالجة هذه الظاهرة، فمن ذلك:

زخرت السنة بنصوصها التي تبين أن من صفات المسلم الأساسية أن يسلم الآخرون من أذاه، بل جعلت السنة هذه الصفة لأهميتها تعريفا للمسلم، بحيث لا تنفك عنه، ولا ينفك عنه، وإلا لما استحق وصف المسلم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «المسلم: من سلم المسلمون من لسانه ويده”([1])

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: “من سلم المسلمون من لسانه ويده”([2])

يقول ابن حجر : هذا يقتضي حصر المسلم فيمن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمراد بذلك المسلم الكامل الإسلام، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجب؛ فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة؛ فإن أذى المسلم حرام باللسان، وباليد، فأذى اليد: الفعل، وأذى اللسان: القول. ([3])

بل ورد في السنة النص الآتي من قوله صلى الله عليه وسلم : ” سأخبركم من المسلم: من سلم المسلمون من لسانه ويده”([4]).

معالجة نفسية

مما يغذي شعور المتنمرين بالعدوانية، تصورهم أن القوي هو من يصرع غيره، ويبغي عليه، وقديما قال شاعر الجاهلية :

وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا ** وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـوا

فجاء الإسلام ليغير هذه التصورات الشائهة التي تدل على ثقافة الغاب، فمما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: “ليس الشديد بالصرعة”([5])

وقديما قال الرجل لسيدنا موسى لما أراد أن يبطش به : {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19].

فالتنمر بالآخرين إفساد في الأرض، والمتنمر ليس من المصلحين، وليس هو القوي في مفهوم الإسلام، وكيف يكون قويا، وما هو إلا عبد استجاب لداعية بهيمية محضة، وما استطاع أن يتغلب على غريزته!

لا يؤمن

وإذا كانت الزمرة السابقة من الأحاديث حضت ورغبت في الحفاظ على الاتصاف بالإسلام بأن يأمن الناس بوائقه؛ تلميحا بأن من لم يسلم منه الناس ليس مسلما ، فتأتي هنا زمرة أخرى تصرح بأن من لم يأمن جاره بوائقه فليس مؤمنا، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه» .

وفي رواية: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» .([6])

يقول ابن حجر : ” وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار وأن إضراره من الكبائر”([7])

كف الأذى

سأل أبو ذر رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة ؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(يؤمن بالله) قال: فقلت: يا رسول الله إن مع الإيمان عملا؟ قال:

(يرضخ مما رزقه الله) قلت: وإن كان معدما لا شيء له؟ قال:

(يقول معروفا بلسانه) قال: قلت: فإن كان عييا لا يبلغ عنه لسانه؟ قال:

(فيعين مغلوبا) قلت: فإن كان ضعيفا لا قدرة له؟ قال:

(فليصنع لأخرق) قلت: وإن كان أخرق؟ قال: فالتفت إلي وقال:

(ما تريد أن تدع في صاحبك شيئا من الخير فليدع الناس من أذاه) فقلت: يا رسول الله إن هذه كلمة تيسير؟ فقال صلى الله عليه وسلم:

(والذي نفسي بيده ما من عبد يعمل بخصلة منها يريد بها ما عند الله إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى تدخله الجنة)

الحديث يجعل كف الأذى من موجبات دخول الجنة، و ربما يستقل الإنسان هذا العمل، لكن إذا عرفنا أن التنمر ما هو إلا إطلاق الأذى على الآخرين، هو السخرية بالضعفاء والصغار، هو الاعتداء عليهم باليد واللسان وقسمات الوجه، هو الصياح بالمسكين في الشارع والسخرية به، وضربه بالحجارة، ورميه بالسباب والشتائم، ووصفه بالجنون والخرق، إذا عرفنا شيوع هذه المظاهر في مجتمعاتنا، عرفنا إلى أي حد ليست هي بالأعمال القليلة ،بل هي أعمال صعبة على المتنمرين!

لقد وصل التنمر إلى أن أصبحنا نسمع عن طفل ينتحر؛ لأنه لم يعد يقدر على احتمال سخرية زملائه منه،  بل سمعنا عن يوتيوبر مشهور وناجح، فكر في الانتحار أيضا بسبب تنمر مجموعة من الناس به، والسخرية من أعماله!


([1]) متفق عليه، جامع الأصول (1/ 241)

([2]) متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان (1/ 9)

([3]) فتح الباري لابن رجب (1/ 37)

([4]) مسند البزار (9/ 206)

([5]) متفق عليه من حديث أبي هريرة، اللؤلؤ والمرجان (3/ 199)

([6]) متفق عليه. جامع الأصول (6/ 638)

([7]) فتح الباري لابن حجر (10/ 442)