ما عرفت صاحبنا إلا رجلاً هادئاً متزناً ولطالماً سمعته وهو يتحدث عن الموضوعية في النظرة إلى الأمور ، وعن ضرورة الإنصاف والعدل مع الناس حتى الخصوم …
وذات يوم جاء ابنه المراهق مسرعاً ، وأسر إليه بكلمات قليلة ، ومضى ، فإذا بالرجل ينتفض ، ويتلفظ بكلمات تفتقر إلى التهذيب ، وإلى ما هو أكثر من ذلك ! وقد تبين أن ابنه أخبره بأن ابن جيرانه قد ضرب أخاه الصغير حتى أدماه ، وحين التقى بابنه وبجاره وسمع الحكاية كاملة تبين له أن ابنه هو الذي بدأ بالضرب والشتم ، فما كان منه إلا أن اعتذر لجاره ، وأبدى أسفه على تعجله في إصدار الحكم .
حالة صاحبي هذه ليست شاذة ، فنحن في حالة الهدوء ننظِّر للسلوك الصحيح ، لكن حين نُستفز ، ونغضب ، فإن عواطفنا تلقي على أعيننا وعقولنا ما يشبه الغشاوة ، فتضعف رقابة العقل على تحركاتنا فنسلك مسالك الجاهلين !.
إن نبينا ـ ﷺ ـ يقدِّم لنا النموذج الأرفع في التماسك والتوازن في كل أحواله ، فهو إذا مزح وغشيه السرور لم يقل إلا حقاً ، وإذا غضب لا يغضب إلا لله ، إنه يغضب حين تنتهك حرمة من حرمات الله ، ولا يغضب انتصاراً لنفسه أو تعبيراً عن الانزعاج من أذى لحق به !! .
وقد علمنا ربنا ما ينبغي علينا القيام به حين نسمع ما يثيرنا ، ويدفعنا في طريق الانتقام ، فقال ـ سبحانه ـ : (( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )) الحجرات : 6.
التبين يعني أن نتأكد من صحة ما سمعناه ، ولو كان الراوي ثقة ، فقد يكون واهماً في تفسير ما سمعه ، وقد يكون ناقلاً عن شخص غير موثوق .. التثبت يمنحنا فرصة لتأخير رد فعلنا على ما نعتقد أنه يسيء إلينا، وحين نتريث في رد الفعل ، فإن سورة الغضب تكون قد انكسرت ، وهذا يجعل أحكامنا وتصرفاتنا عادلة ومنصفة ومتوازنة .
لو تأملنا في واقع الحياة اليومي لوجدنا أن الذي يسيِّر معظم الناس في معظم الأحيان هو مشاعرهم ، وليس عقولهم ، وفي هذا خروج على المنهج الرباني الأقوم وخروج على أدبيات التصرف المنطقي المقبول ، والأمل أن ينحسر ذلك مع تقدم الوعي وانتشار العلم.