من السُّنن الرَّبانيَّة الَّتي تعامل معها النَّبيُّ ﷺ سنَّةُ الأخذ بالأسباب، والأسباب: جمع سبب، وهو كلُّ شيءٍ يُتوصَّل به إلى غيره. وسنَّةُ الأخذ بالأسباب مقرَّرةٌ في كون الله تعالى بصورةٍ واضحةٍ، فلقد خلق الله هذا الكون بقدرته، وأودع فيه من القوانين، والسُّنن ما يضمن استقراره، واستمراره، وجعل المسببات مرتبطةً بالأسباب بعد إرادته تعالى؛ فجعل عرشه سبحانه محمولاً بالملائكة، وأرسى الأرض بالجبال، وأنبت الزَّرع بالماء… وغير ذلك.
ولو شاء الله ربُّ العالمين؛ لجعل كلَّ هذه الأشياء وغيرها – بقدرته المطلقة – غير محتاجةٍ إلى سبب، ولكن هكذا اقتضت مشيئة الله تعالى، وحكمته؛ الَّتي يريد أن يوجِّه خلقه إلى ضرورة مراعاة هذه السُّنَّة؛ ليستقيم سير الحياة على النَّحو الَّذي يريده سبحانه، وإذا كانت سنَّة الأخذ بالأسباب مبرزةً في كون الله تعالى بصورةٍ واضحة، فإنَّها كذلك مقرَّرةٌ في كتاب الله تعالى، ولقد وجَّه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السُّنَّة في كل شؤونهم، الدُّنيويَّة، والآخرويَّة على السَّواء، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15] .
ولقد أخبرنا القرآن الكريم: أنَّ الله تعالى طلب من السَّيدة مريم، أن تباشر الأسباب وهي في أشدِّ حالات ضعفها. قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25] .
وهكذا يؤكِّد الله تعالى على ضرورة مباشرة الأسباب في كلِّ الأمور، والأحوال. ورسولُ الله ﷺ كان أوعى النَّاس بهذه السُّنَّة الرَّبانيَّة ، فكان – وهو يؤسِّس لبناء الدَّولة الإسلامية – يأخذ بكلِّ ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئاً يسير جزافاً، ولقد لمسنا ذلك فيما مضى، وسنلمس ذلك فيما بقي بإذن الله تعالى.
وكان ﷺ يوجِّه أصحابه دائماً إلى مراعاة هذه السُّنَّة الرَّبَّانيَّة، في أمورهم الدُّنيويَّة، والآخرويَّة على السَّواء. وقد كان في حسِّ الأمَّة الإسلاميَّة، في صدرها الزَّاهر: أنَّ إيمانها بقدرة الله تعالى المطلقة، وقضائه، وقدره لا يتعارض مع اتِّخاذ الأسباب، فلقد كانوا يدركون: أنَّ لله تعالى سنناً في هذا الكون، وفي حياة البشر، غيرُ قابلةٍ للتَّغيير، ومع أنَّ لله تعالى سنناً خارقةً تملك أن تصنع كلَّ شيءٍ، ولا يعجزها شيءٌ إلا أنَّ الله تعالى – جلَّت قدرته – قد قضى بأن تكون سنَّته الجارية ثابتةً في الحياة الدُّنيا، وأن تكون سنَّته الخارقة استثناءً لها، وكلتاهما معلَّقةٌ بمشيئة الله، لذلك كان في حسِّهم أنَّه لا بدَّ لهم من مجاراة السُّنن الجارية؛ إذا رغبوا في الوصول إلى نتيجةٍ معيَّنة في واقع حياتهم؛ أي: أنَّه لا بد من اتِّخاذ الأسباب المؤدِّية إلى النتائج، بحسب تلك السُّنن الجارية.
وإنَّ تخلُّف المسلمين اليوم عن رَكْبِ الزَّعامة العالميَّة لم يكن ظلماً نزل بهم، بل كان العدل الإلهيُّ مع قومٍ نَسُوا رسالتهم، وحطُّوا من مكانتها، وشابوا معدنها بركامٍ هائلٍ من الأهواء، والأوهام في مجال العلم، والعمل على السَّواء، وأهملوا السُّنَن الرَّبانيَّة، وظنُّوا: أنَّ التمكين قد يكون بالأماني، والأحلام، ولكن هيهات! ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [آل عمران: 182] وربَّما سائل يقول: ولكن إذا كان هذا عقاب الله للمؤمنين الَّذين عصوه، فما بال الكافرين الَّذين جحدوه سبحانه بالمرَّة، ومع ذلك فإنَّهم ممكَّنون في الأرض – من النَّاحية المادِّيَّة – غاية التمكين؟!
إنَّ هؤلاء الكفار، لم يبلغوا ما بلغوه لأنَّهم أقرب إلى الله، أو أرضى له، ولم يبلغوا ما بلغوا بسحرٍ، أو بمعجزةٍ، أو لأنَّهم خلقٌ آخر متميِّز، ولم يقيموا الصِّناعات، أو يجوبوا البحار، أو يخترقوا أجواء الفضاء؛ لأنَّ عقيدتهم حقٌّ، أو لأنَّ فكرهم سليمٌ، إنَّهم بلغوا بذلك؛ لأنَّ السبيل إلى هذا التَّقدُّم دربٌ مفتوح لجميع خلق الله، مؤمنهم، وكافرهم، برِّهم، وفاجرهم. قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴾ [هود: 15] .
إنَّ الله – سبحانه وتعالى – جعل التَّمكين في الحياة يمضي بالجهد البشريِّ، وبالطَّاقة البشريَّة، على سُننٍ ربَّانيَّةٍ ثابتةٍ، وقوانين لا تتبدَّل، ولا تتحوَّل؛ فمن يُقدِّم الجهد الصَّادق، ويخضع لسنن الحياة؛ يصل على قدر جهده، وبذله، وعلى قدر سعيه، وعطائه.
إنَّها السُّنَّة الَّتي أرادها الله في هذه الحياة، إنَّها مشيئته، وسنَّته، وإرادته صحيحٌ: أنَّ هذا التَّقدُّم كلَّه لا يفتح للكافرين أبواب الجنَّة، ولا يغني عنهم شيئاً، ولكنَّ التَّقصير من جانب المسلم إثمٌ يحاسب عليه.
التَّوكُّل على الله والأخذ بالأسباب
التَّوكُّل على الله – تعالى – لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتَّخذ الأسباب من باب الإيمان بالله، وطاعته فيما يأمر به من اتِّخاذها، ولكنَّه لا يجعل الأسباب هي الَّتي تنشئ النَّتائج، فيتوكَّل عليها.
إنَّ الَّذي ينشئ النَّتائج – كما ينشئ الأسباب – هو قدر الله، ولا علاقة بين السَّبب والنَّتيجة في شعور المؤمن.. اتِّخاذ السَّبب عبادةٌ بالطاعة، وتحقُّق النتيجة قدرٌ من الله مستقلٌ عن السَّبب، لا يقدر عليه إلا الله، وبذلك يتحرَّر شعور المؤمن من التعبُّد للأسباب والتَّعلُّق بها، وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاعته؛ لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.
ولقد قرَّر النَّبيُّ ﷺ في أحاديث كثيرةٍ ضرورة الأخذ بالأسباب مع التَّوكُّل على الله تعالى، كما نَبَّهَ – عليه الصَّلاة والسَّلام – على عدم تعارضهما.
يروي أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أنَّ رجلاً وقف بناقته على باب المسجد، وهمَّ بالدُّخول، فقال: يا رسول الله! أرسلُ راحلتي، وأتوكل؟… وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التَّوكُّل على الله تعالى، فوجَّهه النَّبيُّ ﷺ إلى أنَّ مباشرة الأسباب أمرٌ مطلوبٌ، ولا ينافي – بحالٍ من الأحوال – التَّوكُّل على الله تعالى، ما صدقت النِّيَّة في الأخذ بالأسباب، فقال له ﷺ: «بل قيِّدها وتوكَّل» [الحاكم (3/623) ومجمع الزوائد (10/291) وبلفظ: (اعقلها وتوكل) رواه الترمذي (2517)].
وهذا الحديث من الأحاديث الَّتي تبيِّن: أنَّه لا تعارض بين التَّوكُّل، والأخذ بالأسباب بشرط عدم الاعتقـاد في الأسباب، والاعتماد عليها، ونسيـان التَّوكُّل على الله. وروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ : «لو أنكم توكَّلتم على الله حـقَّ توكُّلـه؛ لرزقكم كما يرزق الطَّير، تغدو خِماصاً، وتروح بِطاناً» [أحمد (1/30، 52) والترمذي (2344) وابن ماجه (4164) وأبو يعلى (247) والحاكم (4/318)].
وفي هذا الحديث الشَّريف حثٌّ على التَّوكُّل، مع الإشارة إلى أهمِّية الأخذ بالأسباب؛ حيث أثبت الغدوَّ، والرَّواح للطَّير مع ضمان الله تعالى الرِّزق لها.
ويمكن تلخيص نظرة الإسلام في هذه القضيَّة، في النُّقاط التَّالية:
1. يقرِّر الإسلام مبدأ الأخذ بالأسباب، ذلك؛ لأنَّ تعطيل الأخذ بالأسباب تعطيلٌ للشَّرع، ولمصالح الدُّنيا.
2. الاعتماد علىالأخذ بالأسباب وحدها، مع ترك التوكُّل على الله، شركٌ.
3. يربط الإسلام اتخاذ الأسباب بالتَّوحيد، مع الاعتقاد بأنَّ أمر الأسباب كلِّها بيد الله.
4. المطلوب من المسلم إذاً، هو اتِّخاذ الأسباب مع التوكُّل على الله تعالى.
ولا بدَّ للأمَّة الإسلاميَّة، أن تدرك: أنَّ الأخذ بالأسباب للوصول إلى التَّمكين أمرٌ لا محيص عنه، وذلك بتقرير الله تعالى حسب سنَّته الَّتي لا تتخلَّف، ومن رحمة الله – تعالى -: أنَّه لم يطلب من المسلمين فوق ما يستطيعونه من الأسباب، ولم يطلب منهم أن يُعِدُّوا العُدَّة التي تكافئ تجهيز الخصم، ولكنَّه سبحانه قال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخرينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60] .
فكأنه تعالى يقول لهم: افعلوا أقصى ما تستطيعون، احشدوا أقصى إمكاناتكم؛ ولو كانت دون إمكانات الخصوم، فالاستطاعة هي الحدُّ الأقصى المطلوب، وما يزيد على ذلك يتكفَّل الله تعالى به، بقدرته الَّتي لا حدود لها؛ وذلك لأنَّ فعل أقصى المستطاع هو برهان الإخلاص، وهو الشَّرط المطلوب؛ لينزل عون الله، ونصره.
إنَّ النِّداء اليوم موجَّهٌ لجماهير الأمَّة الإسلاميَّة، بأن يتجاوزوا مرحلة الوهن، والغثاء، إلى مرحلة القوَّة، والبناء، وأن يودِّعوا الأحلام، والأمنيات، وينهضوا للأخذ بكلِّ الأسباب؛ الَّتي تعينهم على إقامة دولة الإسلام، وصناعة حضارة الإنسان الموصول بربِّ العالمين.
وعلى الأمَّة أن تراعي سُنن الله المبثوثة في كونه، والظَّاهرة في قرآنه الكريم؛ وذلك لتسير على طريق النُّهوض بنورٍ من الله تعالى.
إنَّ النَّبيَّ ﷺ أخذ بسنن الله تعالى منذ البعثة حتَّى وفاته، ولم يفرِّط في أيٍّ منها، فتعامل مع سنَّة الله في تغيير النُّفوس، وسنَّة التَّدافع مع الباطل، وسنَّة التَّدرُّج في بناء الجماعة، ثمَّ الدولة، وسنَّة الابتلاء، واستفرغ ﷺ جهده في الأخذ بالأسباب الَّتي توصل للتَّمكين، فكانت هجرتا الحبشة، وذهابه للطَّائف، وعرضه للدَّعوة على القبائل، ثمَّ هجرته إلى المدينة، فأقام الدَّولة، وحافظ عليها، وسار أصحابه من بعده على نهجه، وتعاملوا مع السُّنن بوعيٍ، وبصيرةٍ، وصنعوا حضارةً لم يعرف التَّاريخُ البشريُّ مثلها حتَّى يومنا هذا.
إنَّ حركة النَّبيِّ ﷺ في تربية الأمَّة، وإقامة الدَّولة نورٌ يُهتدى به، وسنَّةٌ يُقتدى بها في هذه البحور المتلاطمة، والمناهج المتغايرة، والظَّلام البهيم، وإنَّها ليسيرةٌ على من يسَّرها الله عليه.