يشعر الناس بالخوف والفزع على ضياع أمة ما عند رؤية هويتها علي المحك عند التكالب علي انتزاع ماضيها واستبدال ثقافتها بثقافة أخرى طمساً أو تشويهاً، وذلك يسمي اصطلاحا “الاستلاب” أو”التغريب“، لكن هيغل الألماني الذي أطلق هذا المصطلح المثير للجدل وعنى به فيما عنى فقدان الإنسان وجوده الجوهري. وبلاغة معناه هذا يُعبّر عن عجز أصحاب لغة الضاد في إيجاد قطرة من بحور هذه اللغة الوارفة لتوصيف حالة الخنوع والخضوع التي تعيشها هذه الأمة، وهو أبلغ تعبيراً علي رد الفعل غير المناسب الذي يماثل الفعل في الاتجاه ويضاده في المقدار.

ما استفزني للكتابة أملا في عرض حالة التغريب التي تعيشها أمتانا العربية والإسلامية، على الرغم من أنه موضوع مستهلك من حيث استهدافه كتابة وبحثاً ومقتول تنظيرأً إلا أن طحينه صفر كبير، وأنا على استحياء أجدني مستخدماً هذا المصطلح كحالة تعبيرية، ذلك لأن الاستلاب تعدى الفضاءات المفتوحة والمتاحة والمباحة ليتحول من المسخ والتشويه إلى الخطف ثم التبديل، من حضارات وثقافات لم يقتنع أهلها بمزاحمتنا بثقافاتهم المستوردة والمعلبة في مواجهة حضاراتنا الضاربة العراقة عبر إلباسها لثوب العُرِي (العولمة)، بل تجرأت في محاولة “تعملق” خجولة محاولة سلب الأمة الإسلامية هويتها وعنوانها ودينها، لكن لا ضير عليهم في ذلك بل بالأساس لماذا نهاجمهم، ففكرهم ورغم منطقه الخطير ومحتواه الفقير إلا انه استحق الدخول لعقول وألباب شباب الأمة لأنهم جاهدوا واجتهدوا من أجله تشكيلاً ونشراً، رغم أنها الاجتهاد والمجاهدة والصبر والمصابرة سمة هذه الأمة وعنوانها منذ اختيارها وتكليفها بأمانة الإسلام، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم : “يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا”،  فأمر الله للمؤمنين أن يصبروا على دينهم، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء ولا سراء ولا ضراء، وأمرهم أن يصابروا الكفار، وأن يرابطوا المشركين. فالصبر والرباط يكون على الشدائد والمكابدات لا على المتعة والرخاء، لأن المكابدة هي ثمن ريادة وقيادة هذا العالم.
إن الاستلاب تمكن منا ثقافياً واجتماعيا واقتصاديا إلا إنه وصل حد التمكن عند استهدافه الدين؛ فالتنصير والمجموعات التبشيرية المنتشرة في بلاد المسلمين كانتشار الخلايا السرطانية في جسم الإنسان هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه هذا الغزو. فاجتماعيا وبعد أن تم مسخ القيمة الاجتماعية والأخلاقية للزواج، صار الشباب المتمدن مقلدا في الزواج بما يشبه النموذج الغربي كثيرا فكان ما كان من إقدام الشباب علي الزواج (من الجنسين) بعد عمر متأخر وما يترتب عليه من تحديد عدد مرات الإنجاب وإيلاء الإجراءات الشكلية فيه اهتماما كبيرا كتضخيم نفقاته والإسراف في ضجيج الاحتفال به، وقبل ذلك وضع العقبات أمامه، فإن ذلك كله استيراد مخل لأفكار غير مناسبة، فالزواج عند المجتمعات الغربية مقامه كلازم الفائدة في المجتمع فلا عجلة لهم فيه، عكسنا تماما فله من قيمه الحيوية والأساسية، لذلك فهذا الغزو ساهم في استيراد الفشل.
إن التقليد الأعمى في المأكل والملبس وغيرهما من مظاهر الحياة اليومية أقل خطورة من استهداف القيم الأساسية لوجود هذه الأمة؛ لأنه استهداف للمظاهر ويمكن علاجه، ويقفز للذهن سؤال: أين أخيار هذه الأمة العلماء؟ فأحيانا وأنا أتذكر مقولة الإمام الشعبي: “كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم” ألمس انحسارا في دورهم لأن الأخيار لا يركنون إلى إطلاق الاتهامات للآخرين بالتقصير ولا يلعنون الظلام بل يوقدون الشمعات المضيئات التي تنير طرقات الهُدَى لهذه الأمة.
الشباب المسلم في تركيا قدم نموذجاً عملياً قوياً وشامخاً في أن هذه الأمة تختفي لكنها لا تموت وتنسحب لكنها لا تغيب، فأثبت أن التحصن بالإسلام ناجع في مواجهة اختطاف هوية الأمة، فأوربا الآن تخاف شباب تركيا.. الشباب الأوربي الوحيد الذي يعزف عن مشاهدة القنوات الأوربية والعيش كما تعيش، بل إنه بادر إلى تمكين الإسلام قولا وفعلا.. فأوربا تخافه كما تخاف ما يسمى اعتباطا “تنظيم القاعدة”. ثم إن كان هناك سؤال لماذا الشباب التركي كمثال، فإني أقول إن الشباب التركي تماسك عندما توفرت لديه كل مرغبات ومرهبات الانحلال من ماديات وشهوات.
إن مسامعنا لم تعد تستغرب سماع أن شابا قتل والده أو آخر تحرش بأطفال، وكل ما يشوب الفطرة القويمة والشخصية المعتدلة اعتادت عليه المسامع والأنظار، وهذا التعود هو نتاج انعكاسي للتغريب.. فالزجر والرفض المجتمعي لفاعلي هذه الدخائل مع حدودها و عقوباتها وقبل ذلك زرع الفضائل وإزاحة الرذائل في مهد النفوس هو الجهاز الوقائي الفاعل للمجتمع المسلم، ومكمن الخطورة أن التعامل مع ما طفا وطفح من مظاهر التغريب هو معاملة الأعراض بالترويض وترك الأمراض بدون التجفيف من منابعها.. فنموذج التلقين والتحفيظ الذي تم استبداله بديلاً عن منهج الإسلام القائم على إعمال العقل بالتدبر والتفكير وقد أضر هذا كثيراً بهذه الأمة وخصم من مخزونها الحضاري الفكري والاجتماعي وحرمها من الوسطية القابعة بين الإفراط في الرذائل والتفريط في الفضائل.
ثم إن على الأمة الإسلامية والعربية أن تستفيق من هذه الغيبوبة التي طالت بسبب غفلة تسربت في حين غرة من الزمان فشباب الإسلام يحتاج نموذجا يُحتذى، إن المقاربة والمقارنة التي يعيشها شباب الأمة بين ما يجب أن يكونوا عليه وحالهم الذي عليه الآن أراه جلياً في مثال الشباب المسلم المشرق في بداية الدعوة الإسلامية مصعب بن عُمير رضي الله عنه الذي حكًّم عقله ومن ثم قلبه فتحول من ذلك الفتى الذي يوضع له الطعام عند رأسه إذا كان نائماً ولا يوقظ دعة ودلالاً وكانت له ملابس لا يلبس مثلها أحد غيره.. ولما أسلم تخلى عما كان عنده من لذائذ الدنيا ونعيمها عندما خُير بينها والإسلام، وبين شباب الأندلس الذين كان لهم سهم كبير في سقوطها عندما كان البرتغاليون لا يريدون أن يدخلوا بجيوشهم حتى يتأكدوا أن قوة المسلمين ضعيفة، فبدؤوا بإرسال جواسيسهم ليقيسوا اهتمامات شبابه فمرة دخلوا ووجدوا الشباب يتشاجرون: أنا أحفظ البخاري أكثر منك، أنا أجيد المعادلة الكيميائية أفضل منك، ويتسابقون من الأسرع في الفروسية.. ووجدوا أحد الأطفال يبكي، لماذا؟ لأن سهمه أخطأ الهدف! فرجعوا لجيوشهم وقالوا: لا تدخلوا الآن فشبابهم أقوياء ويتنافسون على أهم سلاح وهو الدين والعلم الذي يثري عقولهم. ثم أعادوا الكرة مرة بعد أن تاهت قلوب الشباب وفطرها زرياب، فدخلوا مرة بعد فترة من الزمن فوجدوا بين الشباب أحدهم يبكي، لماذا؟ لأن عشيقته هجرته فرجعوا وقالوا لهم: الآن ادخلوا عليهم، وكانت أشر هزيمة لأعظم فتح في تاريخ الإسلام.
الأمة الآن تحتاج لمجهود جبار ومتكاتف تخلو منه مغامزات التقصير وعبارات اللوم، ورغم ذلك فما كل هذا الاستلاب إلا كالصدأ على الحديد تجلؤه الشدائد والاجتهادات.