في ختام الرواية المأساوية تجد نفسك تتذكر مواقف واقوالا في المفجع في الحياة من خلال تجارب الانسان ومنها لجبران خليل جبران وتتأكد من جديد للعراقيين نصيبا كبيرا في المفجع.
في (حفار القبور) يقول جبران ومن منطلقات مختلفة لا تصل في حدتها في الواقع المفجع العراقي ”ومن تلك الساعة الى الان وانا احفر القبور وألحد الاموات غير ان الاموات كثيرون وانا وحدي وليس من يسعفني.“
أقوال ومواقف كهذه وطبعا ليس جبران اول من تناولها تبقى في عالم نظري اما بطل سنان انطون وفضلا عن كونه عراقيا يعاشر الموت ليلا ونهارا هو من حيث المهنة سواء اكانت بالاختيار ام بالوراثة وبالاثنين معا فهو صاحب ”مغيسل“ يغسل الاموات ويكفنهم ويعدهم للدفن والغلال العراقية وفيرة.
غير ان بطل سنان انطون في روايته (وحدها شجرة الرمان) يكتشف ان الحياة تستمر وخير مثال على ذلك شجرة الرمان المجاورة “للمغيسل” والتي تشرب مياه غسل الموتى ومع ذلك تنتج ثمارا طيبة.
ويختم سنان انطون روايته بقرار من بطله الذي درس الفن في الجامعة وكان ذا موهبة في الرسم والقرار هو عدم مغادرة العراق على رغم الموت والافقار بل البقاء في عمل ابيه بعد ان كان قد رفض هذا العمل على رغم نصح والده الراحل له وفلسفته للامور.
نتذكر في تلك الخاتمة تجارب الانسان العديدة والعريقة في الموت والحياة ونصل في ما نصل اليه مع سنان انطون الى هيراقليطس احد ابرز فلاسفة ما قبل سقراط وقوله ان كل شيء هو ”مثل لهب النار يولد من موت شيء اخر. الموتى خالدون والخالدون موتى… الواحد منهم يعيش موت الاخر ويموت حياة الاخر.“
يختم سنان انطون عمله الناجح المؤثر بالقول ”الاحياء يموتون او يسافرون والموتى دائما يجيئون. كنت اظن ان الحياة والموت عالمان منفصلان بينهما حدود واضحة لكنني الان اعرف بانهما متلاحمان ينحتان بعضهما البعض. الواحد يسقي الاخر كأسه. ابي كان يعرف هذا وشجرة الرمان تعرف هذا جيدا…“
في الرواية كان يفعل كما فعل ابوه قبله اي يقطع سعفا من نخل او اغصانا من شجرة الرمان الشاهدة على الاحزان لوضعها مع الموتى.
ينهي البطل ”جواد“ كلامه فيقول متحدثا عن نفسه وكأنه يتحدث باسم بلده الذي بدا متجسدا فيه ”انا مثل شجرة الرمان. لكن كل اغصاني قطعت وكسرت ودفنت مع جثث الموتى. اما قلبي فقد صار رمانة يابسة تنبض بالموت وتسقط مني كل لحظة في هاوية بلا قرار. لكن لا احد يعرف.. لا أحد. وحدها شجرة الرمان.“
رواية الشاعر والروائي والاكاديمي العراقي (وحدها شجرة الرمان) جاءت في 280 صفحة متوسطة الحجم وصدرت عن ”المؤسسة العربية للدراسات والنشر.“
الرواية تتناول الاحزان العراقية الرهيبة حيث بدا لبطل الرواية ”جواد“ ان الموت اصبح هو ”الحقيقة“ الوحيدة. الحياة تعطلت والاحلام توقفت او تحولت الى كوابيس.
جواد موهوب فنيا. اخوه الذي تخرج من كلية الطب كان قرة عين والديه كما كان مثاله الاعلى وصديقه ومرشده وحاميه. طلب الى الخدمة العسكرية وما لبث ان قتل في الحرب. والد البطل صاحب ”مغيسل“ لغسل الموتى وتكفينهم واعدادهم للدفن. الصبي بقي الى مدة يجهل مهنة ابيه وصار في فترة لاحقة يخجل بها.
ابوه اراده ان يتولى بعده المهنة التي ورثها هو عن ابيه وجده. كان يشدد عليه انها مهنة نبيلة وانسانية وله منها ثواب وان الموت حقيقة لا مهرب منها وعلينا ان نتاخى معه.
تبدأ الرواية بقصة حب مأساوية. الفتاة التي احب ما لبثت ان اختفت من حياته وتركته في غصة وألم الى ان عرف السبب فازداد حزنه والمه. الفتاة وهي ابنة عائلة ثرية اصيبت بالسرطان وكانت تسير الى الموت ففضلت الابتعاد عن حياته وتركه ليرممها ويستمر فيها.
الحرب اقفلت ابواب الحلم. كان خريج كلية الفنون التشكيلية الموهوب قبل وفاة والده واشتداد الازمة قد عمل مع رفيق له في دهن البيوت. توفي الاب واشتدت الضائقة المعيشية فاضطر الى العمل في المغيسل. حاول ترك البلاد فتعرض للمنع. في النهاية قرر البقاء والعمل في المغيسل.
في وصف عمل الاب ثم الابن تفاصيل تكون منفرة في البداية لكن قدرة الكاتب التصويرية والسردية الشعرية التي مع ذلك لا تتخلى عن التفاصيل العملية تخلق حلة من التعايش بين الموت والحياة.
ان لدى سنان انطون كما في مجموعته الشعرية ”ليل واحد في كل مكان“ تلك القدرة التي من اوصافها القول انها قدرة على خلق الجمال من القبح او بالاحرى الكتابة عن القبح بجمال.
والموت ليس جميلا. الا ان القارىء يشعر بتالف معه من خلال كتابة سنان انطون. لقد اعيد تذكيرنا بحقيقة لا تنسى وهي انه الصفحة الاخرى للحياة وان بدا الاثنان لنا نقيضين وبان هذه الخلاصة اذا لم تأت نتيجة اقتناع واذعان بنوع من الايمان فهي ستفرض علينا فرضا فالحتميات لا مجال للمشاعر في التأثير فيها.
يصور لنا بطل الرواية عودته الى عمل ابيه وكأن في الامر قوة خفية تبدو اقرب الى قدرية لا محيد عنها. يقول بعد ان فاوضه مرة اخرى ”الطرسوسي“ صاحب المغسل الاكبر واحد معارف والده الراحل ”لا ادري لماذا وافقت. كانت الحاجة الماسة الى النقود طبعا. اقنعت نفسي بان هذا حل موقت الى ان اجد حلا اخر او مصدر دخل. لم اكن اظن ان عودتي ستكون لشهور او سنين.
”هل كانت هناك قدرة خفية تعيدني الى المغيسل.. هل كان لك يد في هذا يا ابي.. وهل انت سعيد الان…“
ما كان يجري في العراق كان يقضي على الاحلام احلام العمل والزواج والحب. الفتاة التي احب اخذها منه القدر .وتلك الاخرى الفاتنة ايضا التي تعلقت به بعد سنوات من الاولى ابتعد هو عنها فكأنه وهو في عالم يسيطر عليه الموت قرر ”الخروج من دورة الحياة“ كما يقول اصحاب اراء فلسفية والانصراف الى الحقيقة الكبرى الباقية..الموت واعداد الراحلين للرحلة الاخيرة.
سنان انطون في مجالات عديدة من روايته هذه يهز القارىء هزا. يكتب سردا دقيقا مؤثرا في الغالب يغنيه امتلاء بالشعر ليأتي الشعر وصوره رافدا للعمل القصصي لا شأنا مستقلا عنه.
تتحول شجرة الرمان الى رمز.ثمرها رائع لكن بطلنا يرفض ان يأكله لامتلائه بالموت. انها عنده كالحياة فيها الرائع لكنه الان لا يتمتع باي روعة فيها فكل روعة صارت كثمرة الرمان مليئة بالموت والحزن. لكأنه يقول ايضا ان على الانسان ان يتحول الى شجرة رمان كي يستطيع الاستمرار في الحياة وان عليه القيام بقرار فلسفي كبير مثل مواقف البير كامو واخرين وهو تحويل ماسيها واحزانها والامها الى حلاوة او التخفيف منها.
يقول قبل الختام عن شجرة الرمان ”نظرت الى تربتها الغامقة المبللة بماء الغسل الذي كانت قد شربته للتو. عجيبة هذه الشجرة. تشرب ماء الموت منذ عقود لكنها تظل تورق كل ربيع وتزهر وتثمر. الهذا كان ابي يحبها كثيرا.. كان يقول بان في كل رمانة حبة من حبات الجنة. لكن الجنة بل الجنات كلها دائما هناك في مكان اخر.والجحيم كله هنا ويكبر يوما بعد يوم. جذو شجرة الرمان هذه مثلي هنا في اعماق الجحيم.
”يا ترى هل تبوح الجذور بكل شيء للاغصان ام انها تخبيء عنها ما يوجع.. ترتفع اغصانها وتبدو حين تداعبها الريح كأنها تحاول ان ترفرف لتطير لكنها شجرة قدرها ان تكون شجرة وان تكون هنا.“ انها جواد بطل الرواية وانها العراق ايضا.
لقد نجح والده كما يبدو في جعله شجرة رمان مغروسة في الارض تحاول ان ترفرف لكنها لا تطير فهي مربوطة بالارض.