ما كان العرب يجهلون علم التاريخ قبيل ظهور الإسلام حيث وجدت “أيام العرب” وهي مجموعة روايات شفوية جماعية تتمركز حول القبيلة، وتحوي أخبارها وانتصاراتها وفضائلها وأشعارها، لكنها لم تخل في الغالب من ارتباك في بعض تواريخها، ومن تعصب للقبيلة، ومع ظهور الإسلام بدأت نظرة جديدة للتاريخ في التشكل حيث تضمن القرآن تعريفًا بأصل الخليقة، وأشار إلى الأمم والشعوب السابقة وأكد على أهمية استخلاص القيمة الأخلاقية في تاريخهم، كما أولى عناية لفكرة توالي النبوات بما يشير إلى وجود تاريخ عالمي مشترك يضم المؤمنين من أتباع العقائد التوحيدية، وبتأثير هذه النظرة القرآنية اضمحلت الرؤية التقليدية التي تختزل التاريخ في القبيلة أو الجماعة المؤمنة.

انعكس التغيير في الرؤى على أساليب الكتابة التاريخية التي اتخذت في الحقبة المبكرة أحد اتجاهين :

الأول اتجاه إسلامي نشأ في كنف علم الحديث حيث كان هناك حاجة لضبط أقوال الرسول وسيرته بدقة للإفادة منها في عملية التشريع.

والثاني الاتجاه القبلي القديم ممثلا في أيام العرب الذي ظل سائدا في الكوفة والبصرة باعتبارهما مراكز الثقافة العربية القبلية، وبمضي الوقت ضمر هذا الاتجاه واضمحل في منتصف القرن الثاني[1]، على حين تمدد الاتجاه الأول وانفصل عن علم الحديث وتفرع إلى عدة فروع من الكتابة التاريخية مثل: كتب التاريخ العام أو الإقليمي، وكتب الحوادث المفردة وكتب التراجم والطبقات وغيرها من صنوف الكتابة التاريخية.

ومع اتساع دائرة الكتابة التاريخية وتطورها كان هناك حاجة لضبط عملية التأريخ الجمعي أو الفردي (التراجم)، وخصوصا أن عملية التأريخ قد تطرق إليها الخلل تدريجيا حتى أن ابن خلدون راح ينتقد ما صار عليه حال المؤرخين في عصره قائلا: إن المؤرخين الأوائل كابن إسحاق والطبري وابن الكلبي والواقدي تمتعوا “بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة… ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع أو متبلد ينسج على ذلك المنوال، ويحتذى منه بالمثال، ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع في العصور الأول صورا قد تجردت عن موادها.. إنما هي حوادث لم تُعلم أصولها وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها… ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقا، محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها… وليس يعتبر لهؤلاء مقال ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلوا بالمذاهب للمؤرخين والعوائد”[2].

وكما نلحظ فإن ابن خلدون تطرق إلى القضايا المنهجية المتعلقة بإهمال التعليل والميل إلى التقليد والقعود عن البحث والتنقيب إلا أن فقيها ذائع الصيت مثل التاج السبكي ناقش البعد الأخلاقي الذي يتجلى في أن نفرا من المؤرخين “ربما وضعوا من أناس ورعوا أناسا: إما لتعصب أو لجهل أو لمجرد اعتماد على نقل من لا يوثق به أو لغير ذلك من الأسباب، .. وكذلك التعصب قل أن رأيت تاريخا خاليا من ذلك” [3]. ولهذه الأسباب يحمل التاج السبكي بشدة في (معيد النعم) على المؤرخين حتى وصفهم  بأنهم “على شفا جرف هار، لأنهم يتسلطون على أعراض الناس، وربما نقلوا مجرد ما يبلغهم من صادق أو كاذب”.

شروط المؤرخ

تطرق الخلل إلى عمل المؤرخين جعل هناك ضرورة لطرح قضية شروط المؤرخ وكيفية التدوين التاريخي على نطاق البحث، إذ نجدها حاضرة في أعمال ابن خلدون والصفدي والسخاوي من المؤرخين، كما نجدها أيضا في أعمال نفر من علماء الشريعة مثل: تقي الدين السبكي وولده تاج الدين، بل إن هنالك فتاوى صدرت بهذا الخصوص وقع عليها كبار علماء الأمصار كابن حجر العسقلاني وبدر الدين العيني وغيرهما، وقبل أن نتطرق لها نستعرض أولا بعض الضوابط التي وضعها علماء الشريعة واعتبروها وافية لضبط عملية التدوين التاريخي.

نقل التاج السبكي في طبقاته من خط والده عبارات حول بعض الشروط التي اشترط توافرها في المؤرخ فذكر ما نصه:

-أن يكون عالما، عدلا، صادقا.

 -وإذا نقل يعتمد اللفظ دون المعنى.

 – وأن لا يكون الذي نقله أخذه في المذكرة وكتبه بعد ذلك.

 – وأن يسمي المنقول عنه [مصدره].

– ويُشترط فيه أيضا لما يترجمه من عند نفسه، ولما عساه يطول في يطول في التراجم ويقصر، أن يكون عالما بحال صاحب الترجمة علما ودينا وغيرهما من الصفات، وهذا عزيز جدا.

– وأن يكون حسن العبارة، عارفا بمدلولات الألفاظ.

 -وأن يكون حسن التصور، حتى يتصور حال صاحب الترجمة جميع حال ذلك الشخص، ويعبر عنه بعبارة لا تزيد عليه ولا تنقص عنه.

– وأن لا يغلبه الهوى فيخيل إليه هواه الإطناب في مدح من يحبه، والتقصير في غيره…

منهجية التدوين: فتوى شرعية

وقد خالف نفر من المؤرخين هذه الشروط فملأوا تواريخهم بالكثير من الآراء والأحكام التي أملاها الهوى، لما بينهم وبين معاصريهم من الصداقة والعداوة، والرغبة والرهبة، وعلى الجهة المقابلة هناك من تمسك بها وبمنهجية التدوين التاريخي الصارمة التي ربما تضمنت ذكر مساوئ صاحب الترجمة، وهنا ثار السؤال حول هل يجوز للمؤرخ أن يذكر تراجم الناس على ما يعلم منها من خير وشر؟ وهو السؤال الذي أجاب عنه خمس من الفقهاء الأعلام في القرن التاسع الهجري، وهم: ابن حجر العسقلاني، وشمس الدين القاياتي الشافعي، سعد الدين الديري الحنفي، وبدر الدين العيني الحنفي، وعز الدين الكناني الحنبلي، ونص السؤال: ” ما يقول السادة العلماء الأعلام مشايخ الإسلام، أمتع الله بوجودهم الأيام، في مؤرخ يذكر تراجم الناس على ما يعلم منها من خير وشر، تابعا في ذلك لمن تقدمه من سلف العلماء، والأئمة الماضيين وهم القوم بهم يُقتدى، قاصدا بذكر الشر التنفير ممن يكون ذلك صفته، مما عساه ينقل عنه ذلك في أمر ديني… فاعترض عليه معترض فقال هذا غيبة لا تحل، ويجب على فاعله التعزير وكثر عليه التشنيع فهل هو مصيب في أن ذلك غيبة لا تحل أو هو غيبة مباحة، وهلا يلام من نفر من هذا العَلم [صاحب الترجمة]، ويكون عائبا لمن لا يحصون ممن تقدم من كبار العلماء” [4].

ويمكن التمييز في إجابات العلماء الخمس بين مسألتين:

الأولى ما يلزم المؤرخ والمترجم من خصائص: وتحدث فيها ابن حجر الذي ذكر في مفتتح إجابته أن من يتصدى لكتابة التاريخ قسمان، قسم يقصد ضبط الوقائع أي المؤرخ، ويلزمه التحري في النقل فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالنقل الشائع، وإن كان في الواقعة التاريخية أمر قادح ينبغي ألا يُبالغ في إفشائه، وقسم ثان يقتصر على تراجم الناس سواء تقيد أو عمم، ويلزمه تحري الصدق في النقل، ولا يعتمد على مجرد التشنيع على كل أحد، فإن للناس أغراضا متفاوتة، بل ينظر في الناقل له؛ فإن كان ثقة فليعتمده، وإن كان يعرف بالمجازفة أو بينه وبين المترجم له حظ نفس فليتجنبه”، وأما الشيخ بدر الدين العيني فلا يعتمد هذا التقسيم وإنما يضع تقسيما للمؤرخين حسب العصور فهنالك مؤرخين متقدمين ومؤرخين متأخرين؛ وكلاهما يحتاج إلى الاطلاع على أحوال الناس بدقة، حتى يحصل التمييز بين القول الحق والقول الباطل، ولا يعرف هذا إلا بمعرفة حال القائل به، ولذا لم يتحرج المتقدمين من ذكر المثالب، “فإنهم لم يريدوا بهذا إلا وقوف الناس من أهل العلم على ذلك ليميزوا المعدل من المجروح، وأما المتأخرون فإنهم إن كانوا نقلة عن مشاهدة وعيان وبأخبار ثقات فلا بأس بذكرهم هذا، لأن فيه فوائد كثيرة لا تُخفى.

والثانية الحكم الشرعي : وتتعلق بجواز ذكر سلبيات المترجم لهم، وهذه المسألة متفق عليها بين جميع الفقهاء الذين يرون أن ذلك الصنيع لا يؤاخذ المؤرخ ولا يعزر[5] إن قصد بذلك بيان وجه الحقيقة وتحذير الناس، والخلاف بينهم هل يعد ذلك غيبة أم لا، وممن لا يعتقد ذلك بدر الدين العيني وابن حجر حيث يقول” وأما اعتراض من اعترض في ذلك، زاعما أن ذلك غيبة، فإن كان جاهلا فليعلم فإن أصر فليؤدب بما يليق، ليرتدع عن الخوض فيما ليس له به علم، وإن كان منسوبا للعلم، فاللوم عليه أشد، لأنه يصير معاندا فليقابل بما يليق من الزجر، حتى يرجع عن الطعن في البريء والذب عن المفتري”، على حين يسلك قاضي القضاة عز الدين الكناني مسلكا مغايرا ذاهبا أنه على تقدير كونها غيبة “فما كل غيبة حرام فقد أجازوها في مواضع… منها: النصيحة للمسلمين وهي جائزة بلا خلاف بل واجبة، وسواء كانت النصيحة خاصة أم عامة.. فيحمل حال هذا المؤرخ على محمل من المحامل الحسنة”[6].

خلاصة ما سبق، أن علماء الشريعة ساهموا بفاعلية في النقاش: حول الشروط الواجب توافرها في المؤرخ، ومنهجية تدوين الوقائع والتراجم، ودافعوا عن حق المؤرخ في تدوين الوقائع والتراجم على الوجه الذي وقعت عليه، دون أن يخشى ترهيبا أو تعزيرا.


[1] عبد العزيز الدوري، نشأة علم التاريخ عند العرب، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط2 ص 17.

[2] ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ت: حامد أحمد الطاهر، القاهرة: دار الفجر، 2004، ص 14-15.

[3] تاج الدين السبكي،  قاعدة في المؤرخين (مطبوع مع كتاب «أربع رسائل في علوم الحديث»، ت: عبد الفتاح أبو غدة، بيروت: دار البشائر، 1990

[4] نقلا عن: فؤاد سيد، شروط المؤرخ في كتابة التاريخ والتراجم، القاهرة: مجلة معهد المخطوطات العربية، 1956، ص 166-167.

[5] التعزير هو العقوبة المقررة من الإمام فيما لا نص عليه من العقوبات.

[6] المرجع السابق، ص 177.