هل كان الشافعي يؤسس علما أم يصوغ ثورة معرفية تعيد رسم حدود السلطة والمعرفة في العالم الإسلامي؟ وما السر الذي حول تقنين الشافعي للأصول من مجرد اجتهاد علمي إلى نظام واجه به الانقسام والتفكك المعرفي في لحظة تاريخية مضطربة؟

من أجل فهم هذه المحطة المفصلية في تاريخ الفكر الإسلامي، يأتي الكتاب اللافت “قانون الفقه الإسلامي: نظرية الشافعي في سياقها الفكري والاجتماعي” للمؤلف د. أحمد الشمسي، وبترجمة أنجزها د. أحمد محمود إبراهيم، والصادر عن مركز نهوض للدراسات والبحوث في الكويت، ليعيد فتح ملف تأسيس علم أصول الفقه ولكن من زاوية جديدة حيث يقدم الكتاب مساهمة منهجية متمثلة في رؤيته التي تربط التحولات الفقهية النظرية بأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية وذلك بدراسة نظرية الشافعي ووضعها في قلب الصراعات الفكرية والاضطرابات الاجتماعية لعصرها.

تقنين الأصول

تتجلى الأطروحة الأساسية للكتاب في تصور مفهوم “تقنين الأصول” كمنعطف يتخطى فكرة التأسيس التقليدية، لأن الإمام الشافعي أسس تحولا معرفيا أعاد للوحي هيئته، ونقله من ساحة التداول الجماعي إلى إطار مكتوب محدد الحجية، مما أرسى ملامح هوية معيارية صهرت التباينات المحلية والإقليمية في قالب حضاري موحد.

يكشف الكتاب المشهد الفقهي في القرن الثاني الهجري الذي اتسم بالاستقطاب الحاد بين مدرستين: أهل الرأي في العراق وأهل الحديث في الحجاز. وقد مثّل هذا الانقسام صراعًا عميقًا حول مصادر التشريع وطبيعة السلطة المعرفية في الإسلام.

اعتمد أهل الرأي على أدوات استنباطية مرنة لتكييف النصوص مع الواقع المتغير، ما منحهم نفوذا في المؤسسة القضائية العباسية. في المقابل، تمسكت مدرسة الحجاز بالنص الحديثي والعمل المتوارث لأهل المدينة، معتبرة إياه تجسيدا حيا للسنة النبوية.

صاغ الشافعي قواعد لغوية محكمة لتأويل النصوص وضبطها، فنتج عن ذلك تقييد التأويلات الفردية، وتراجع تأثير العادات المحلية التي تفتقر إلى سند نصي صريح. تحوّل النص الشرعي إلى المرجع الأسمى، وأصبح فهمه العلمي مفتاحًا للسلطة الفقهية. ومن خلال هذا المنهج، أقام منظومة معرفية قابلة للتحقق والاستدلال، متجاوزًا الانتماءات الضيقة، وموحِّدًا الأمة على أساس القرآن الكريم والسنة النبوية.

أفرزت الأزمات المتلاحقة في القرنين الثاني والثالث الهجري اضطرابًا في سلم المكانة الاجتماعية، ومثلت نظرية الشافعي استجابة عمليةً لتلك الزلازل المجتمعية. قدم الشافعي في مقترحه إطارا جديدًا لتقييم أهل العلم، يقوم على تميزهم في إتقان علوم الكتاب والأصول، متحرّرًا بذلك من قيود الانتماءات أو الحسابات. جاء هذا التحوّل متناغمًا مع تحوّل الدولة العباسية نحو المركزية، مما مهّد لتراجع استقلالية العلماء التقليدية وتعزيز مرجعية موحدة تحضن الأمة.

هيمنة المنهج المعرفي

تميز المذهب الشافعي بالاعتماد على المدونة النصية الصلبة منذ البداية، خلافا للمدارس السابقة التي تمحورت حول الأستاذ وتعاليمه الشفهية. وبُنِي المذهب حول كتب أساسية مثل: الرسالة التي شكلت دستور المذهب. لم يقتصر الأمر على الكتب، بل امتد إلى شبكة دقيقة من الرواة والنساخ الذين ضمنوا انتقال النصوص بشكل موثوق عبر الأجيال والأمصار. ومثّل هذا التحول نحو المرجعية النصية المكتوبة ثورة حقيقية سمحت للمذهب بالانتشار الجغرافي الواسع وتجاوز حدود الزمان والمكان.

تشكلت حول النصوص الشافعية جماعة من التلاميذ والأتباع حملوا لواء المذهب وحوّلوا أفكار الشافعي إلى نموذج معرفي مهيمن يوجه أبحاث الأجيال اللاحقة. وضمنت آلية التقليد استمرارية المذهب وتماسكه رغم التنوع الداخلي الذي ميّزه لم يكن نجاح الشافعي الأكبر في عدد أتباع مذهبه، بل في هيمنة منهجه؛ حيث فرضت عملية “تقنين الأصول” نفسها على الجميع، حتى على الخصوم. فقد اضطر فقهاء الحنفية والمالكية إلى تبني الإطار المنهجي الشافعي، فشرعوا في تأليف كتبهم الخاصة في أصول الفقه للدفاع عن مذاهبهم.

وجاء التحول في النقاش الفقهي ليتمحور حول تحديد المصادر النصية وترتيبها وتأويلها، وهو جوهر المنهج الشافعي. وامتد التأثير ليشمل مفسري القرآن وعلماء آخرين، ما يعني أن الشافعي أسس البنية المعرفية للفقه السني الكلاسيكي بأكمله.

من هو مؤلف الكتاب ؟

مؤلف كتاب “قانون الفقه الإسلامي: نظرية الشافعي في سياقها الفكري والاجتماعي” هو الدكتور أحمد الشمسي، أستاذ متخصص في تاريخ الفكر الإسلامي، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 2009 م، ,يشغل منصب أستاذ الفكر الإسلامي ورئيس قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى في جامعة شيكاجو بالولايات المتحدة الأمريكية، عرف الدكتور الشمسي ببحثه المعمق في تطور المدارس والتيارات الفكرية والعلمية في التاريخ الإسلامي. وتتركز اهتماماته البحثية على التاريخ الفكري والاجتماعي للفقه الإسلامي، وتاريخ الكتاب والمخطوطات، والعلاقة بين الشفاهية والكتابية في التراث الإسلامي.

يعد كتابه “إعادة اكتشاف التراث الإسلامي: كيف غيَّرت ثقافةُ الطباعة والتحقيق عالَمنا الفكري” من أبرز أعماله التي لاقت صدى واسعًا في الأوساط الأكاديمية. صدر الكتاب باللغة الإنجليزية تحت عنوان:

(Rediscovering the Islamic Classics: How Editors and Print Culture Transformed an Intellectual Tradition ) عن مطبعة جامعة برينستون عام 2020 م.

خاتمة

إن صدور الترجمة العربية لكتاب “قانون الفقه الإسلامي: نظرية الشافعي في سياقها الفكري والاجتماعي” يثري المكتبة العربية والنقاش الفكري الدائر فيها، ويفتح نافذة على أحدث المناهج والنقاشات في الأوساط الأكاديمية، ممّا يساهم في تعميق الفهم المعاصر للفقه الإسلامي.