ورد في القرآن الكريم وصف الله بصفات الكمال، وأنه المنفرد بها وحده دون ما سواه، وعرّفُ الله نفسه لخلقه في آية الكرسي:
وتعد آية الكرسي أفضل آية في كتاب الله، إذ كل ما فيها متعلق بالذات الإلهية العليّة، وناطق بربوبيته تعالى، وألوهيته وأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.
وهذه الآية تملأ القلب مهابةً من الله وعظمته وجلاله وكماله، فهي تدل على أن الله تعالى منفرد بالألوهية والسلطان والقدرة، قائم على تدبير الكائنات في كل لحظة، لا يغفل عن شيء في السماوات والأرض. قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [سورة البقرة: 255].
وإليك شرحَ هذه الآية العظيمة التي تحدَّث الله فيها عن نفسه عز وجل.
– “اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ”:
أي: لا خالق ولا معبود بحق وصدق إلا الله عز وجل، وكل ما سواه باطل أصلاً، وهذه الآية أصل في التوحيد؛ واحد ليس له شريك، ولا نظير، ولا وزير، ولا مشير، ومعناه: النهي على أن يعبد شيء غير الله. فهو الإله الحق الذي نتمنى أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأليه له تعالى، لكماله وكمال صفاته، وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقاً أن يكون عبداً لربه ممتثلاً أوامره، متجنباً نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقاً ناقصاً مدبَّراً فقيراً من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئاً من أنواع العبادة.
– “اللَّهُ”: هو اسم دال على ذات الله تعالى، رب العالمين، الإله المعبود حقاً، المتّصف بجميع الكمالات المطلقة التي لا تعد ولا تحصى ولا تحد ولا تستنقص، والمتنزه عن جميع العيوب والآفات، ولم يتسمَّ بهذا الاسم غيره سبحانه.
– “اللَّهُ”: هذا الاسم الجليل، تعلّقت به جميع العوالم بذاتها وبأنواعها قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [سورة فاطر: 15]. فجميع العباد يقولون: يا الله، دعاءً أو سؤالاً، نداءً أو ذكراً أو مناجاة.
– “اللَّهُ”: هذا الاسم هو جامع الأسماء الإلهية، الظاهرة والباطنة على الوجه الذي لا نهاية له كما هو أهله سبحانه، لأن أسماءه تعالى هي على حسب صفات كماله، وصفات كماله ما لها نهاية، فأسماؤه ما لها نهاية، ولهذا الاسم الجليل خصائص وفضائل كثيرة مذكورة في كتب المطولات.
إن معرفة الله تعالى أجلُّ المعارف، وإرادة وجهه أجلُّ المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرف الأقوال.
– “الْحَيُّ الْقَيّومُ”:
مدَح الله نفسه بصفتين جليلتين جميلتين فقال: “الحي القيّوم”؛ “الحي”: الذي لا يموت، الحي من صفة الله تعالى، وهو الذي لم يزل موجوداً وبالحياة موصوفاً، لم تحدث له الحياة بعد موت، ولا يعتريه الموت بعد حياة، وسائر الأحياء سواء؛ يعتريهم الموت والعدم، فكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وتعالى. “الحي”: من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع “صفات الذات”؛ كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك. والحياة التي وصف بها الإله الواحد هي “الحياة الذاتية” التي لم تأتِ من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق، ومن ثم يتفرد الله سبحانه بالحياة على هذا المعنى، كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية.
“القيوم” أي: دائم القيام بجميع شؤون الخلق، وهو القائم على كل شيء، فالله عز وجل قائم بتدبير خلقه في إيجادهم وأرزاقهم وجميع ما يحتاجون إليه. “القيوم”: هو الذي قام بنفسه وقام بغيره، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء؛ من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء، وسائر أنواع التدبير، كل ذلك داخل في قيومية الباري. إن صفة “الحياة” متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة “القيومية” متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى هو اسم “الحي القيوم”، ويكون التوسّل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء؛ وهي أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات “الحي القيوم”، والمقصود أن لاسم “الحي القيوم” تأثيراً خاصاً في إجابة الدعوات وكشف الكربات، ولهذا كان النبي ﷺ إذا اجتهد في الدعاء قال: يا حيُّ يا قيوم.
– “لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ”:
هذا من تمام حياته وقيوميّته، أنه تبارك وتعالى “لا تأخذه سنة ولا نوم”. أي: لا يعتريه نعاس ولا نوم؛ لأنه من أعراض البشرية، والله بخلاف ذلك.
– “السِّنة”: ابتداء النعاس، يصير نوماً، و”النوم” أقوى من السِّنة، وإذا كان ذلك كذلك فإن نفي استيلاء السِّنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال “الحياة” ودوام التدابير، وإثبات لكمال “العلم”، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال.
والخلاصة: هذه الجملة مؤكِّدة لما قبلها، مقرِّرة لمعنى الحياة والقيوميَّة على أتم وجه، إذ مَن تأخذه السِّنة والنوم يكون ضعيف الحياة، ضعيف القيام بشؤون نفسه وشؤون غيره.
– “لَهُ مَا في السَّمَاوَات وَمَا في الْأَرْض”:
لما كان الله سبحانه وتعالى دائم القيام في ملكه وليس لأحد معه فيه شركة ولا لأحد عليه سلطان قرَّر عز وجل قيوميّته هذه بقوله: “له ما في السماوات وما في الأرض”، أي: جميع من فيهما ملكه، يتصرف وحده بحكمته وقدرته وعنايته، وجميع عبيده وملكه تحت قهره وسلطانه.
– “مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ”:
أي: ليس لمخلوق -كائناً من كان؛ لا ملك مقرَّب ولا نبي مرسل-شفاعة ولا ضراعة عند الله عز وجل إلا برضاه وبعد إذنه، فإن “الشفاعة” كلها لله وحده، وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل، وأنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنٍ له من الله في الشفاعة.
إن الله تعالى لا يشفع عنده أحد بحق ولا إدلال؛ لأن المخلوقات كلها ملكه، ولكن يشفع عنده من أراد هو أن يُظهر كرامته عنده، فيأذن له بأن يشفع فيمن أراد.
– “يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ”:
أي: إن الله عز وجل عليم بكل ما في السماوات وما في الأرض من شؤون خلقه؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومن أمر الدنيا والآخرة، والمقصود من ذلك: عموم العلم بسائر الكائنات في الأرض وفي السماوات. وإن الله عز وجل عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه، حتى يعلم دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء تحت الأرض الغبراء، وحركة الذرة في جو السماء، والطير في الهواء والسمك في الماء. فلا تخفى عليه غائبة في الأرض ولا في السماء ولا ما بينهما، فهو عالم بخفايا وأسرار ملكه ومخلوقاته سبحانه وتعالى.
– “وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ”:
أي: لا يدركون من العلم أو المعرفة إلا بقدر ما عرَّفهم به أو منه رب العالمين، الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم. فآتاهم الله من علمه ما شاء، وكما شاء، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. لا يطّلع أحد على شيء من علم الله إلا بمشيئة الله وتعليمه، فما عرفه الإنسان من عالم الغيب، وما عرفه الإنسان من عالم الشهادة وقوانين هذا الكون، وكيفية تسخيره، لم يكن إلا بمشيئة الله وتعليمه، فهو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وهو الذي علّم كل شيء ما علم.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على سعة علم الله عز وجل، وأنه محيط بكل شيء؛ قلَّ أو كثر، صغر أو عظم، كما جاء تحديداً في سورة يونس: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سورة يونس: 61].
إن علم الله تعالى محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة؛ إلّا ما علّمهم الله تعالى.
– “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ”:
إن الكرسي هو كناية في الآية عن عظم العلم وشموله واتساعه، وتفسيره بعظم السلطات يتناسب مع قوله تعالى قبل ذلك: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾، ولذلك يصح أن نقول: إن قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ كناية عن عظم قدرته ونفوذ إرادته وواسع علمه وكمال إحاطته، وقد فسر ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنه بأن ﴿كُرْسِيّهُ﴾ علمه؛ هو كناية عن سعة الملك وسعة العلم. وهذه الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقاً وثباتاً، فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك، فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه، وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية، ولكن الصورة التي ترتسم في الحسِّ من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن. تأتي: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ لتقرير ما تضمّنته “الجمل” كلها من عظمة وكبرياء وعلم وقدرة في حق الله عز وجل في علاه، ولبيان عظمة خلقه في مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه، أو إظهار سعة ملكه.
– “وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا”:
أي: إن الذي خلق ما في السماوات وما في الأرض من مخلوقات كثيرة لا يشق عليه عز وجل حفظهما، ولا يعجز عن رعاية ما أوجده فيهما، ولا يثقله تعالى تسيير شؤونهما حسبما قضاه وقدَّره فيهما، فسبحان من تقوم السماء بأمره، وتدور الأرض بوحيه، رفع الجبال وأجرى الأنهار وحرّك الهواء وشق الحَب وأخرج الثمار، والوجود في قبضته وكل ما فيه إنما إرادته، لا تعصيه سماء ولا تخرج عن طاعته أرض ولا سحاب.
– “وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ”:
أي: الله تعالى فوق خلقه، فلا يعلو إلى مقامه الرفيع أحد، وهو أيضاً الكبير ذو الهيبة والجلال، المتعالي بعظمته جل جلاله على كل عظيم. “العلي”: يفسر بأنه أعلى من غيره قدراً، فهو أحق بصفات الكمال، ويفسر بأنه العالي عليهم بالقهر والغلبة، فيعود إلى أنه القادر عليهم وهم المقدورون، وكان النبي ﷺ يستفتح دعاءه: سبحان ربي العلي الوهاب، فكان النبي ﷺ إذا سجد -أي في صلاته-قال: سبحان ربي الأعلى “ثلاثاً”.
“الْعَظِيمُ”: الذي قد كمل في عظمته، فهو عظيم في ذاته وصفاته، فذاته العليَّة جلَّت عن المشابهة، وهو الخالق القاهر القادر، وهو وحده الإله المعبود بحق، وهو الذي يسبّح كل شيء في الوجود بحمده، فهو العظيم وحده، والمعبود وحده، والمعظَّم وحده، وإذا كانت غواشي الحياة قد أضلت الأكثرين فلم يدروا عظمته في الفانية فستنجلي لهم عظمة ذي الجلال في الباقية.
هذان هما الوصفان الشاملان: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ لكل الأوصاف السابقة، فالله سبحانه وتعالى هو العلي العظيم. إذن هذه آية الكرسي، أعظم آية في كتاب الله، كما ورد في بعض الآثار المثبتة في الصحاح، وإنها لتدل على وحدانية الله تعالى بكل شعبها، فقد دلت على وحدانية الألوهية؛ لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، ووحدانية الخلق والتكوين، فلا خالق مع الله تعالى، ولا إرادة تمنع إرادته، وقد دل على ذلك بأكثر ما في الآية الكريمة؛ كقوله سبحانه: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾. وحدانية الذات والصفات، بمعنى أن الله لا يشبهه شيء أو أحد من خلقه، قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى: 11]. وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾، تعالى الله رب العالمين علواً كبيراً، تولانا سبحانه بعنايته وتوفيقه وهدايته.
المصادر والمراجع:
قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، د. علي الصلابي، صـــ 122/132
التفسير المنير، وهبة بن مصطفى الزحيلي، دار الفكر المعاصر، 3/18.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، مرجع سابق، 4/1810.