صفة نزول القرآن : قال الله عز وجل: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا * وَلَا يَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِيرًا } [سورة الفرقان: 32-33] وقال سبحانه: { وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا } [سورة الإسراء: 106] وقال: { شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ} [سورة البقرة: 185] وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ»، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه يتفصد عرقًا.
وروى البخاري عن ابن عباس قي قوله تعالى: { لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ * إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ } [القيامة: 16-17]، قال: كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة وكان يحرك شفتيه خشية أن ينساه، فأنزل الله { لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ * إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ } [سورة القيامة: 16-17]، أي جمعه لك في صدرك وتقرأه، {فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ}، – أي أوحيناه – {فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ}، أي فاستمع له وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ }، أي علينا أن تقرأه فلا تنسى شيئًا منه. فكان رسول الله ﷺ إذا أتاه بعد ذلك جبريل استمع له وأنصت، فإذا ارتفع عنه جبريل قرأه النبي بدون أن ينسى شيئًا منه. حتى إنها لتنزل عليه السورة الطويلة كسورة الأنعام – فإنها نزلت عليه جملة واحدة – فيقوم رسول الله حافظًا لها من ساعته، والحافظ المجد صاحب الذاكرة القوية يمكث في حفظها الشهر والشهرين فلا يتقن حفظها مع ممارسته لقراءتها، والنبي ﷺ كان أميا وقد فاجأه الوحي بغار حراء، وهو لا يكتب ولا يقرأ المكتوب صيانة للوحي من أن تتطرق إليه الظنون الكاذبة، فيقال: كتبه من كتاب كذا أو تعلمه من كذا.
وليس عند قريش في مكة مدارس ولا كتب، ويسمون بالأميين لكون الأمية سائدة من بينهم، يقول الله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ * بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ } [سورة العنكبوت: 48-49].
ويقول أيضًا: {أَوَ لَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحۡمَةٗ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُون} [سورة العنكبوت: 51]، فكان القرآن هو المعجزة العظمى للنبي محمد ﷺ كما في البخاري أن النبيﷺ قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من المعجزات ما آمن به البشر، وإن المعجزة التي أوتيتها هو هذا القرآن، وإني أرجو أن أكون أكثرهم تبعًا».
نشأ ﷺ يتيمًا في حجر عمه أبي طالب بمكة، وكان أهل مكة وكافة قريش يطلقون عليه اسم الأمين، وقد رعى الغنم بقراريط لأهل مكة، وقال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ» فقوله: {شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ} [سورة البقرة: 185] قيل: إنه أنزل جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل منجمًا على قدر الوقائع. حكاه ابن جرير وابن كثير والبغوي والقرطبي عن ابن عباس ولم يحكوا قولاً غيره. لهذا ظن كثير من العلماء والمفسرين أن التفسير به صحيح لكثرة ما يمر ذكره بأسماعهم.
وقال ابن الجوزي في التفسير: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنزل فيه القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا. قاله ابن عباس، والقول الثاني: أن معناه أنزل فيه القرآن لغرض صيام رمضان، روي عن مجاهد والضحاك، والقول الثالث: أن القرآن ابتدئ بنزوله على النبيﷺ في رمضان، قاله ابن إسحاق وأبو سليمان الدمشقي.. انتهى.
وأقول: إن هذا القول الأخير هو الصحيح، وهو أن القرآن ابتدأ نزوله في رمضان في ليلة القدر منه وهي الليلة المباركة كما قال سبحانه: {إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ} [سورة الدخان: 3]، وقال: {إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ} [سورة القدر: 1]، ومعنى إنزال القرآن في شهر رمضان مع أنه من المعروف باليقين أن القرآن نزل منجمًا متفرقًا في خلال ثلاث وعشرين سنة زمن البعثة: أنه ابتدئ نزول القرآن في رمضان، لكون لفظ القرآن والإنزال يطلقان ويراد بهما هذا القرآن بجملته، ويطلقان ويراد بهما بعضه، كقوله: { ٱلرَّحۡمَٰنُ * عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ} [سورة الرحمن: 1-2] وإنما يتعلم الناس القرآن شيئًا بعد شيء، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله، وأن معنى {أُنۡزِلَ فِيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ} [سورة البقرة: 185]: أي بدؤه وأوله.
وفي تفسير المنار ما يدل على الجزم بهذا وعدم الالتفات إلى ما يخالفه. فقد قال: إن معنى {شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ} [سورة البقرة: 185]، أي ابتُدِئ نزوله في رمضان في ليلة القدر منه، وهي الليلة المباركة؛ لأن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجمًا متفرقًا في مدة البعثة كلها، على أن لفظ القرآن يطلق ويراد به القرآن بجملته ويطلق ويراد به بعضه، كما في الآية. قال: وقد ظن بعض المفسرين أن الآية مشكلة ورووا في حل الإشكال أن القرآن نزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل على النبي ﷺ منجمًا بالتدريج، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي ﷺ في رمضان، وهو خلاف ظاهر القرآن، إذ لا يقول سبحانه: {شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ} وهو في السماء ولم ينزل بعد! قال: وقد رووا على هذا روايات في كون الكتب السماوية أنزلت في رمضان[1]، كما قالوا: إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان، وقال الأستاذ الإمام: ولم يصح من هذه الأقوال والروايات شيء وإنما هي حواش أضافوها لتعظيم رمضان.. انتهى.
لا يقال: إن القرآن شيء فاض على نفس محمد بدون أن يتكلم الله به، وبدون أن ينزل به جبريل عليه، فإن هذا حقيقة في الكفر به. يقول الله: { وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ * عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ } [سورة الشعراء:192-195]. وأما قول ابن عباس: إن القرآن نزل جملة إلى بيت العزة في السماء الدنيا[2]. فهذا القول خرج على سبيل الاجتهاد منه بدون أن يسنده، ويأجره الله عليه، وليس بالمرفوع حتى لا يكون للاجتهاد مجال في مخالفته، وكان ابن مسعود وبعض الصحابة يخالفون ابن عباس في كثير من تفسير الآيات مما يعلمون أنه قاله عن اجتهاد منه. وكذلك علماء التابعين، كمجاهد وسعيد بن جبير يخالفون ابن عباس في تفسير بعض الآيات. على أنه أعلم الصحابة بالتفسير بالاتفاق، حتى قيل: كأنه ينظر إلى الغيب عن ستر رقيق، وقد دعا له رسول الله ﷺ وقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»[3]. لكن لا يلزم أن يكون كل ما يقوله في التفسير على سبيل الاجتهاد أنه الصحيح وما يخالفه فباطل؛ إذ المعلوم أن العلماء من الصحابة ومن بعدهم يتفاوتون في فهم بعض الآيات، وكل إنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة فإنه سيحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء، إذ الكمال المطلق لله سبحانه وكم ترك أول لآخر.
وعلى فرض قول ابن عباس، فإن القرآن لم ينزل على النبي ﷺ في رمضان حينما يفسر بإنزاله إلى السماء الدنيا ولا تظهر به المنة على المؤمنين ولا تقوم عليهم به الحجة مادام في السماء، ولم يقل الله سبحانه: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى السماء الدنيا. ثم إن القول بهذا يقوي حجة من قال: إن القرآن مخلوق وهو باطل قطعًا بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فإن القرآن كلام الله نزل به جبريل على رسول الله ﷺ بدون واسطة بيت العزة ولا غيره {قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ} [سورة النحل: 102] وقال سبحانه: {وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ *عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ } [سورة الشعراء:192-195].