تغشى ديار المسلمين اليوم ومنذ آماد ليست بالبعيدة موجات من التقاطع والتدابر التي أتت على معاني الإسلام وغاياته نقضاً وتشويهاً، وعلى قيمه الحميدة نقصاً وتشويشاً، وجعلت الأمة نهباً لكل طامع، فانتقصت الأراضي وتقطعت الجزر، وتعادى الناس، فانتهكت العصم، واستحلت الحرم.
وكل ذلك لغياب مفاهيم الألفة والمحبة والتجاور والتناصر والولاء والتعايش والقبول والاعتذار، فضلاً عن القصور البيّن في صناعة أساليب عملية وبرامج تربوية وسياسات اجتماعية تعيد لتلك المعاني وجودها في القلوب، وسطوتها في الواقع المعيش.
إن صناعة الألفة قمينة بالعودة إلى مسرح التاريخ، وهل عزّت قريش في الجاهلية إلا بنظام الإيلاف الذي جعل منها رأس العرب، وجعل من مكة أم القرى، وبذلك ضمنت الرخاء الاقتصادي والأمن الاجتماعي.
أولاً: الألفة في القرآن الكريم والسنة النبوية
تعدّ الألفة بين المسلمين من نعم الله على مجموع المؤمنين: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾ (آل عمران، 103).
وهذا تذكير تاريخي مهم بحال العرب وتشرذمهم الذي أحالهم إلى وصف الجاهلية، وكيف انقلبت حياتهم إلى سؤدد وعزّ وقوة ومكنة جعلت مجاوريهم الفرس يستغربون من هذا الانقلاب الكبير في حياتهم، وكيف كانوا قبائل تغزو وتسلب وترضى بالدون والقليل، ثم تصير جيشاً واحداً، مضرياً وربعياً، قيّسياً ويمنياً، جسّد اتحاد الأجساد والأفئدة نحو الهدف الأسمى.
ولأجل ذلك بيّن الله تعالى سبيل صناعة الألفة، وأنه ثمرة المنهج الرباني، ثم القيادة الصانعة والراعية، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (الأنفال، 62-63).
ولأمر ما جاءت مفردات الألفة في القرآن في سورتي آل عمران والأنفال، وهما السورتان اللتان تناولتا انتصار بدر وانكسار أحد، وكأن القوة العسكرية لا تستعلي ولا تؤتي أكلها إلا بحضور الألفة والاجتماع، فالانتصار هو انتصار القلوب ابتداء وانتهاء.
وأما السنّة النبوية القولية والعملية فطافحة بمعاني الألفة تفهيماً وتنزيلاً وتحقيقاً، لأنها متواشجة مع معاني الولاء الإيماني، ولأن طبيعة المؤمن رحمانية بالأصالة: «المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف، ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس» (الطبراني في الأوسط، 5787). وهو يتحقق بها في كل صلاة عندما يبث في تشهده قوله: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”.
وانتفاء هذه الألفة والمحبة لجماعة المؤمنين من علائم النفاق، كما جاء في الحديث: “إن للمنافقين علاماتٍ يعرفون بها: .. لا يألفون ولا يؤلفون، خُشُب بالليل، صُخُب بالنهار” (أحمد، 7913).
وهذه الألفة تبدأ في دواخل القلوب، ثم تفيض على الجوارح والجوانح، لقوله ﷺ: “الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف” (البخاري، 3336). وأكثر من تحقق بها الصحابة من مهاجرين وأنصار، ومن تبعهم بإحسان من أهل الصفّة والنزّاع من القبائل الذين آووا إلى المدينة، فوجدوا فيها الرفد والعطاء والجوار الحسن الذي عوّضهم عن الغربة وأثقال الهجرة من ديارهم وأموالهم.
ثانياً: غايات الألفة ومقاصدها
- تحقيق الوحدة الإيمانية والشعورية: إذ الألفة من مقتضيات التوحيد والولاء، وغايتها توحيد الأمة على الكلمة السواء والرحمة المتبادلة، وفي هذا يقول قتادة: “أمَا واللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو إنَّ الأُلفةَ لرَحمةٌ، وإنَّ الفُرقةَ لعَذابٌ”. وشواهد هذا في التاريخ لا تحصى، فحيثما ارتفع مؤشر الوحدة الشعورية جاء النصر المبين.
- الإجبار على التصالح: هو مسلك يلزم الصالحين من أمة محمد بالسعي والمثابرة في استنزال الأخصام على خطة الصلح، وكفّ الدماء، وتحمل المغارم والديات، بل والعفو العام كما هو الوارد في سورة الحجرات التي تكرر فيه الأمر بالصلح والقسط بين الفئات النازعة للقتال في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات، 9).
- تحقيق الوحدة السياسية: وهو حلم تحقق في الخلافة الراشدة، لكنه صعُب بعد ذلك في الدول المتعاقبة، فإذا عجزنا عن تحقيق الأمثل، فلا أقلّ من الإتلاف والتعاون والتناصر، وفي هذا نحن متخلّفون مقارنة بالاتحادات العالمية والإقليمية. ولولا هذا الخلاف والتدابر ما تجرأ اليهود علينا، لأنهم علموا بأن منسوب الخذلان قد تمكن من بعض قطاعات الأمة المستقيلة من تحقيق الألفة والمحبة، لضمور الضمير عندها، وفي هذا جاء الوعيد الشديد عنه ﷺ: «ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته» (أبو داود، 4884).
- التحبيب في الإسلام: وفي هذا جاء مصرف المؤلفة قلوبهم، لأن الجانب الأخلاقي هو أكثر ما يجذب الناس للدين، وشواهد إسلام أرخبيل الملايو قديما، ومونديال قطر حديثا دالة على ما للتأليف من دور في جذب الخلق لدين الله تعالى.
ثالثاً: وسائل الألفة
- الدّين: إذ إنّ الألفة تبعث على التناصر في الدّين الآمر بالتواصل، والمحرّم للقطيعة والتفرّيق بين الناس. فالدّين أكبر عروة للتآلف. وشواهد هذا في هبّة أهل الغرب الإسلامي لنصرة صلاح الدّين في فتح بيت المقدس، أو في أساطيل العثمانيين التي جرت كالأعلام لاستنقاذ الموريسكيين من الإسبان.
- البر والتلطف: لأنّه يزرع اللطافة في القلوب، ويغذّيها بالمحبة، وقد أمر الله تعالى بالتعاون على البرّ، وخاصة القول والتواصل: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ (الإسراء، 53).
- فقه الأخوة: فقه عظيم جدا، وجب إحياؤه والحض عليه، كما قال ﷺ: “المؤمنون كرجل واحد. إن اشتكى رأسه، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر” (مسلم، 2586)، ولأن الأخوة مدعاة للتماسك الاجتماعي، وفي الحديث: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا. وشبك أصابعه» (البخاري، 481).
- قضاء الحقوق: فإن أدائها، وعدم التراخي والتقاعس فيها يؤلّف القلوب، ويحببها ويجمّعها، ويجعل الألفة دائمة قائمة، ولهذا كان الشارع قيّما على مجمل الحقوق الواجبة، وخاصة حقوق الضعفاء.
- إشاعة الآداب الإسلامية: التي حضّ عليها الشارع الحكيم من إلقاء السلام، العيادة، الجنازة، إجابة الوليمة، تشميت العاطس، التهادي، وفي الحديث: «حق المسلم على المسلم خمس؛ رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» (البخاري، 1240).
رابعاً: صور الألفة بين المسلمين
- الألفة المتحقّقة أصالة في الشعائر الجماعية: كصلاة الجماعة، التي تزدان بالتراص، اللين في أيدي الإخوان، فليس عندنا مساجد طبقية ولا مذهبية ولا عرقية، ويؤم الناس أقرؤهم، وكذا باقي الشعائر الموحدة، مثل الصوم في وقت واحد، والحج لمكان واحد، فترى الملايين متآلفين بلا رفت ولا فسوق ولا جدال.
- التكافل الاجتماعي: الدال على تحقيق الألفة والمحبة في بذل الزكاة والصدقات “تؤخذ من أغنيائهم”، حتى لا يقع الحقد، فالكل ذو حق مضمون، واتخاذ الكلاب والكاميرات والأبواب الحديدية لا تغني، لأن الجوع كافر.
- إشاعة السلام: فهو الثقافة الإسلامية الواحدة بكل اللغات، وجاء: «أن رجلا سأل النبي ﷺ: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (البخاري، 12).
- فقه الجوار: وهو فقه عظيم جدا قائم على عدم الإيذاء والمشاركة في الأفراح والأحزان، وتبادل الطعام، ووصاة جبريل بالجار مشهورة، والإيمان مرفوع عمن شاعت بوائقه، سواء الجوار الفردي القريب، أو جوار الدول، فأفكار الحصار وأساليب القطيعة مرفوضة ومرذولة، ووصمة عار لم تعرفها العرب في الجاهلية.
- التعاضد: فالألفة تحقق معاني الجسد الواحد، فلا تفريط في مسلم لأنهم سواسية، وذمتهم واحدة، وقد جيّش النبي ﷺ غزوة من أجل امرأة واحدة في قينقاع، وأخرج الصحابة لمطاردة القبائل من أجل راع، في قصة نفر عكل وعرينة. وسنّ دعاء القنوت لمقتل أصحابه السبعين، وشرّع القنوت للنوازل المحيقة بالأمة. ولهذا كان النصر بالرعب يتأتى من الألفة والمحبة والتناصر في السراء والضراء.
- الدعاء: وهو من علام الألفة بين جماعة المؤمنين، ولذلك كان الدعاء الجماعي أفضل، والإمام الراتب لا يغش المأمومين، فيدعو لمن خلفه، وخير الدعاء ما كان من أخ صالح. وما ذلك إلا لمعنى الألفة.
خامساً: مهدمات الألفة
- الأخلاق السيئة: فهي مدعاة للتدابر والشنآن، وإغراق السفينة الواحدة. فلا يحلّ للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، وفي الحديث: “تُعرض الأعمال على الله في كل اثنين وخميس، فيغفر الله في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا، إلا أمرؤا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا” (مسلم، 2565).
- أمراض اللسان، وخاصة الفحش والغلظة: “إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره” (البخاري، 6032). وفي النصيحة قالوا: “مَن شَدَّد نَفَّر، ومَن لان تألَّفَ”.
- التنازع والتخاصم في الدّين: وخاصة بعد إتيان العلم، وهو ما نعاه الله تعالى على بني إسرائيل في عديد الآيات. وفي حديث جندب بن جنادة عنه ﷺ: “اقرَؤوا القُرآنَ ما ائتَلَفَت قلوبُكم، فإذا اختلَفْتُم فقوموا عنه” (البخاري، 5060)، ولهذا قال ابنُ تيمية: “وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدّين” (مجموع الفتاوى، 24/172).
- الاحتراب والتظالم: ففيه جاءت القواطع الناهية: “لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”، وقوله ﷺ: “اتقوا الظلم، فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم” (مسلم، 2578).
- العصبية: سواء القبلية، العرقية، اللهجية، أو اللغوية، وهو ما حذر منه النبي ﷺ: “من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية” (مسلم، 1848). وما أكثر ما حطمت العصبيات الجاهلية وحدة الأمة وما تزال بالفتن المشتعلة التي ينفخ فيها الشيطان.
- التطرف في الاعتداد بالرأي: وذلك ظاهر في المذهبية القاتلة، والتفرق المذهبي المستند إلى شبهات، وهو ما حذر منه القرآن الكريم: ﴿إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ (الأنعام، 159).
سادساً: علاج تواري الألفة اليوم
من الغريب أن العالم اليوم يزداد تقاربا، ولا نزداد نحن إلا تباعدا، بعدما كنا مثال الألفة والوحدة والتناصر، فإذا سبيت امرأة من أهل المشرق هبّ أهل المغرب لتحريرها، وكان استنقاذ الأسرى عندنا قائما ولو استغرق الأموال، وأوروبا التي كانت متناحرة، تطورت إلى اتحاد واحد يسيح فيه الناس دون حدود أو قيود.
- العلاج السياسي: وذلك بالجرأة في السؤال عن مصالح المسلمين، وتقوية وتنمية صور الألفة في الحج، والسياحة، والزيارات، والمنافسات الشريفة، وإيجاد الاتحادات الاقتصادية والسياسية الفاعلة.
- العلاج القضائي: فكثير من الحروب الأهلية تعالج بالمصالحة والعفو الجماعي، ومداوة الجروح، وتحمل الدولة لذلك. ومع الزمن تندمل الجروح وتعود الألفة بدلا من التناحر، مع عدم إغفال القراءة الواعية للتاريخ واستعادة مقولة عمر بن عبد العزيز: “تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فلنطهر منها ألسنتنا”.
- العلاج الأكاديمي: وذلك بالدراسات الجادة الاستقرائية لعلاج مشكلات التجمعات ومحاولات حلها في تخصصات علم الاجتماع، علم النفس، الخدمة المجتمعية، الشؤون الدولية.
- العلاج التربوي: وهو الأساس لما سبق، وهو يبدأ من الأسرة، وما تزرع من قيم الألفة والمحبة، وما ذا تترك من مسببات التقاطع كالتحريش، والتحذير، والتخويف من الجار والغريب. ومحاربة قطيعة الأرحام.
- العلاج الخطابي: الدّيني أولا بمداوة أمراض القلوب، والتعلق بوعد الله، وتجسيد التقوى في الأقوال والأفعال، وكذا الخطاب الإعلامي، بمحاربة بعض المظاهر السيئة التي تحرش بين الشعوب وتزرع فتائل الخصام بينها، كما يحصل في مواسم الرياضة من التافهين، وفي هذا تنبغي الفعالية في المبادرة والتنزيل، وعدم ترك الأمور تتفاقم بين الأفراد والجيران والجماعات، ففي حديث سهل بن سعد: “أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله ﷺ بذلك، فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم” (البخاري، 2693).
إنّ إحياء فقه الإخوة وإشاعة الألفة ضرورة عاجلة وقائمة وباقية لبقاء الأمة وظهور الدّين، وتواريها مؤذن بغرق السفينة الحاملة الجامعة، واضمحلالها هو الحالقة التي تأتي على الجميع ولات حين مناص.
