لم يكن شهر شعبان من الأشهر الحرم المعلوم فضلها وحرمتها، ولم يأت نص صريح في تفضيله على غيره من الشهور، إلا أنه يحتل مكانة مميزة لما فيه من استعداد نفسي وجسدي لاستقبال شهر رمضان الفضيل، فقد خصّه رسول الله ﷺ بالصيام أكثر من غيره، مما يدل على أهميته كتمهيد لصيام رمضان واعتاده على الطاعات، وزكان عليه الصلاة والسلام يخصه بالصيام أكثر من غيره إشعارا وإعلانا بقرب بشهر رمضان.
قال ابن رجب موضحا لوجه صيام رسول الله ﷺ في شعبان:”وفيه معانٍ، وقد ذكر منها النبي ﷺ إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظنُّ أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام، وليس كذلك وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان، لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط”[1] ولكن يمكن حصر أنواع الصيام في شهر شعبان على أربعة أنواع:
النوع الأول: الصيام الواجب
يشمل الصيام الواجب في شعبان من كان عليه قضاء صوم رمضان السابق بسبب ظروف معينة مثل السفر، المرض، الحيض، الحمل، الرضاعة أو الكفارة.
فيجب على من حاله هذه المبادرة إلى قضاء ما عليه قبل حلول شهر رمضان ولو بيوم.
لقول عائشة رضي الله عنها:” كان يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله ﷺ أو برسول الله ﷺ.[2]
ولقوله عليه الصلاة والسلام:”لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم”[3] ولا شك أن الأمر بالصوم في هذه الحال أوجب في حق من عليه قضاء.
النوع الثاني: الصيام المستحب
جاء استحباب إكثار الصيام في شهر شعبان من فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام ومداومته عليه، لذلك يعد الصيام المستحب في شعبان من السنن المؤكدة، إذ كان رسول الله ﷺ يصوم شعبان كثيرًا. وقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قوله:” كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان”.[4]
وفي رواية:” كان يصوم شعبان كله” وهو بمعنى الحديث السابق وإنما عبرت بلفظ كله لكثرة صيامه عليه الصلاة والسلام في هذا الشهر.
قال الترمذي: “كأن ابن المبارك قد رأى كلا الحديثين متفقين، يقول: إنما معنى هذا الحديث أنه كان يصوم أكثر الشهر”[5]
ودل الحديث على أنه أفضل التطوع يستحب صيام الاكثار منه ولو من بداية الشهر حتى قبيل النهاية.
النوع الثالث: الصيام المكروه
جاء في الحديث النبوي الشريف ما يدل على كراهية الصيام بعد انتصاف شهر شعبان، وهو حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال:” إذا انتصف شعبان فلا تصوموا “[6]
وبوب علىه الإمام الترمذي بقوله:” باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الباقي من شعبان لحال رمضان
إلا أن هذا الحديث لم يثبته كبار نقاد المحدثين المتقدمين.” وقالوا: هو حديث منكر، منهم عبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة، والأثرم، وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء أنكر منه، ورده بحديث ” لا تقدموا رمضان بصوم يوم [7]
قال الشوكاني: جمهور العلماء ضعَّفوا هذا الحديث
وعلى فرض ثبوته فإنه يحمل النهي على من عرف من حاله أن الصوم قد يهنه فيسبب له الضعف والعسر في شهر رمضان، أو أن النهي يخص من بدأ صيام بعد انتصاف الشهر خلافا لمن قد صام من أول الشهر، وعلى كل حال فقد “ذهب الحنابلة إلى كراهية صيام النصف من شعبان”[8] من أجل حديث الباب.
وكذا يكره صوم يوم الشك، الذي هو اليوم المتمم للثلاثين من شهر شعبان عند عدم تحقق رؤية هلال شهر رمضان بسبب الغيم، لقول عمار بن ياسر رضي الله عنه:” من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم ﷺ”[9].
قال الترمذي:” حديث عمار حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ، ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذي يشك فيه، ورأى أكثرهم إن صامه فكان من شهر رمضان أن يقضي يوما مكانه.[10]
النوع الرابع: الصيام المحرم
قال الشافعية:” يحرم صوم النصف الأخير من شعبان الذي منه يوم الشك[11] تمسكا بصريح مقتضى منطوق النهى الوارد في حديث “إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا” حيث دل على النهي عن إنشاء الصوم بعد انتصاف شعبان وأن النهي يقتضي التحريم، ولكن الحكم بالتحريم مرهون بثبوت الحديث.
وذهب ابن حزم إلى أن الذي يحرم هو اليوم السادس عشر من شعبان فحسب.[12]
ويشتد القول بالتحريم ويقبح إذا كان بنية تخصيص يوم نصف شهر شعبان بالصيام اعتقادا بفضله ومنزلته، لأن هذا من البدعة الصريحة في الدين.
وكذا يحرم صوم يوم أو يومين قبل رمضان من باب استقبال الشهر أو احتياط أن يكون من رمضان، ومن هنا اتجه قول من قال بتحريم صوم يوم الشك على نية أنه من شهر رمضان.
وقال الشيخ ابن عثيمين عند شرحه لحديث:” لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين”: واختلف العلماء رحمهم الله في هذا النهي هل هو نهي تحريم أو نهي كراهة؟
والصحيح أنه نهي تحريم، لاسيما اليوم الذي يشك فيه.[13]
قال الحافظ ابن حجر معلقا على أثر عمار السابق: استُدل به على تحريم صوم يوم الشك لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه فيكون من قبيل المرفوع.[14]
وقال علماء اللجنة الدائمة عن يوم الشك : “دلت السنة على تحريم صومه.”[15]
ومن هذا القبيل أيضا، تحريم إحياء ليلة نصف شهر شعبان بالصلاة أو الدعاء فرادى أو جماعة بنية أنها ليلة فيها تكتب سعة الرزق وطول العمر وغيرهما من الاعتقادات العارية عن الدليل.
قال الإمام النووي: الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي ثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بِدْعَتَانِ مُنكرتان، ولا تَغْتَرّْ بذكرهما في كتاب قوت القلوب ـ لأبي طالب المكي ـ وإحياء علوم الدين ـ للإمام الغزالي ـ ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض مَنِ اشْتَبَهَ عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك[16]
وجماع القول، أنه لا يجوز الاحتفال بليلة النصف من شهر شعبان بل ينبغي لكل مسلم أن يتقيد بما صح به الدليل، وأن لا ينشأ عبادة أو اعتقادا إلا بإذن الشرع الواضح، كما هو الحال في مواسم الخير والأوقات الفاضلة المشهورة بأدلتها.