ثبت في الحديث الصحيح أن النبي كان إذا خطب على المنبر بدأ بالحمد لله والصلاة عليه، ثم يقول: “أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”. فما هو المقصود بهدي النبي ؟ وما هي مظاهره؟ ولماذا يعد الالتزام به وتقديمه في كل وقت وحين أمراً ضرورياً؟

ما هو الهدي النبوي؟ ولماذا هو طريق السعادة والنجاة؟

المقصود بـ “الهدي” هو السيرة والطريقة، فخير الهدي إذن هو خير الطرق والسير: طريق محمد عليه السلام وسيرته ودينه، وتشمل كل ما أمر به النبي وفعله، أو نهى عنه، أو اختاره سواء واظب على فعله أم لا إذا ثبت فيه وجه الاقتداء .

وهذه الطريق هي التي أمرنا الله تعالى باتباعها، ووعد بالجزاء الأوفى لمن أذعن وأطاع وتابع النبي ، فقال جل شأنه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]. وهذا أمرٌ إلزامي لكل من آمن بالله تعالى وبما أنزل على رسله.

أما الهُدَى – بضم الهاء -: ما هَدى الله به عباده عن طريق رسول الله ، والأول كقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]

ووعد سبحانه بالهداية لمن وافق هديه والتزم سنته، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: 54]. ويظهر أثر هذا الاتباع والاقتداء في تحقيق سعادة الدارين، في الحال والمآل، قال عز وجل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].

ولما كانت السعادة هي غاية كل إنسان، وكان يسعى بجدٍ واجتهاد للبحث عن طرقها، عرفنا بالآية السابقة أن الطريق الوحيد لنيل هذه الغاية المنشودة هو التزام هدي النبي ، لأن المقصد الأعظم الذي بُعث من أجله هو إرشاد الناس إلى سعادتهم في حياتهم ومعاشهم ومعادهم، وقد تجسّد ذلك في شريعته وسننه الثابتة التي تحقق صلاح العباد وسعادتهم.

قال ابن القيم في كتابه زاد المعاد:

“لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على يدَي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم. فالطيِّب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به. فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميَّز أهل الهدى من أهل الضلال..”

“وإذا كانت سعادة الدارين معلّقةً بهدي النبي فيجب على كلِّ من نصح نفسه وأحبَّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه. والناس في هذا بين مستقلٍّ ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء.”

وأكد ابن تيمية على هذا المعنى أن كمال الإنسان بحسب اتباعه لهدي الرسل والتزام خير الطريق وأحسن السيرة، قال:

“فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق، والكامل هو من كان لله أطوع وعلى ما يصيبه أصبر فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه وصبرا على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك. (دقائق التفسير 2/299).”

جوهر العبادة: الإخلاص والمتابعة

تتجلى أهمية اتباع هدي النبي في كونه جزءاً مكملاً للدين، فلا يصح إيمان ولا يستقيم إسلام إلا بشرطين اثنين: أن يكون العمل خالصاً لله تعالى، وأن يكون موافقاً للهدي النبوي الشريف. بهذين الشرطين فقط يصح العمل ويؤجر عليه صاحبه، وهو “العمل الصالح” الذي ذكره الله في قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].

قال ابن كثير:

“فمن كان يرجو ثواب الله وجزاءه الصالح {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصًا لله صوابًا على شريعة رسول الله .”

وأصل لذلك ابن تيمية بقوله:

“العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع، فإن الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له. والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله لا نعبده بالأهواء والبدع. قال الله تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}.”

أما محمد الغزالي فقد أبرز المعنى الحقيقي للاقتداء بهدي النبي حين صدح في مقدمة كتابه “فقه السيرة“، فقال:

“ومحمد ليس قصة تتلى في ميلاده كما يفعل الناس الان، ولا التنويه به يكون في الصلوات المخترعة التي قد تضمّ إلى ألفاظ الأذان، ولا إكنان حبّه يكون بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون، ويتأوّهون أو لا يتأوهون!. فرباط المسلم برسوله الكريم أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة على الدين.. إنّ المسلم الذي لا يعيش الرسول في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره لا يغني عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة.”

كيف أعرف هدي النبي؟ 5 ركائز عملية للتطبيق

إن معرفة هدي النبي هي الدليل الصحيح على صدق محبته ومعرفته. فمن كان معرضاً عن هديه، فإن ادعاءه المعرفة هو دعوى فارغة ونفخة في سراب. وتتحقق هذه المعرفة العملية من خلال أمور أساسية، منها:

1. إدراك جوهر رسالته (التوحيد)

يجب أن يعرف الإنسان رسالة النبي ، وأنه جاء بالتوحيد، وإفراد العبادة لله سبحانه وتعالى، والكفر بالطاغوت، وأن النبي جاء يعلم الناس، ويميز بين المسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، والطائع والعاصي وهكذا.

2. تحقيق الطاعة الكاملة له

وتكون طاعته في أمرين: بالتصديق بخبره، والامتثال بأمره، وذلك بالفعل، أو النهي وذلك بالترك؛ لأن مقتضى الأمر الفعل، ومقتضى النهي الترك، ومقتضى الخبر التصديق.

3. لزوم سنته والتحاكم إليها

فاتباع سنته من أعظم الأمور الواجبة وهي من حقوق النبي ، وهي من مقتضيات معرفة الرسول وشهادة أن محمداً رسول الله، ولهذا يقول الله عز وجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

4. ترسيخ اليقين بمعرفة دلائل نبوته

فإن معرفة دلائل النبوة لها أهمية كبيرة في الثقة بالنبي وبما يقوله عليه الصلاة والسلام، وهي من أعظم الأمور التي تساعد على تحقيق الثلاثة السابقة. ولهذا كان النبي يعلم أصحابه دلائل نبوته حتى بعد استقرار الإيمان في قلوبهم وحتى بعد جهادهم.

ففي يوم الخندق ظهرت فيه من دلائل النبوة الشيء الكثير، وبعد الخندق مع استقرار إيمان الصحابة ومع تربيته عليه الصلاة والسلام لهم، ومع إيمانهم الجازم بصدقه إلا أن النبي كان يبين لهم دلائل نبوته بياناً كثيراً ومتعدداً لما في ذلك من غرس اليقين في النفس، وزيادة الإيمان في القلب، فعندما ضرب الحجر يوم الخندق وقال: (الله أكبر! فتحت فارس، وقال: فتحت اليمن، وإني أرى أبواب صنعاء).

وعندما دعاه جابر إلى الشاة ودعا أهل الخندق جميعاً وأكلوا جميعاً من هذه الشاة وبقي منها، وهذه ألوان متعددة من دلائل نبوة النبي مما يدل على أهميتها حتى بعد استقرار الإيمان في النفس.

5. المعايشة الكاملة بدراسة سيرته

وهذا يشمل معرفة تفاصيل حياته: نسبه، وبعثته، وغزواته، وهديه اليومي في كل شؤونه كما فصله ابن القيم في “زاد المعاد”، وهو كتاب عظيم جمع فيه الفقه مع العقيدة مع السيرة العملية مع الأحكام مع الفوائد في السلوك والأخلاق، وكل هذه أخذها من سيرة النبي وسماه “زاد المعاد في هدي خير العباد”.

خاتمة

وختاماً، فإن معرفة هدي النبي ليست مجرد ثقافة تُكتسب أو معلومات تُحفظ، بل هي روح تسري في كيان المسلم، وبصيرة تنير دربه، ومنهج حياة يُترجم إلى واقع عملي. إنها الضرورة التي لا غنى عنها لمن أراد أن يحقق معنى العبودية الحقة، ويفوز بمحبة الله ورضوانه، وينال السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.

ما هو الهدي النبوي الشريف؟

الهدي النبوي هو سيرة النبي محمد وطريقته ومنهجه الكامل في كل شؤون الحياة، من عبادات ومعاملات وأخلاق، وهو المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم.

لماذا يعتبر اتباع سنة النبي ضرورياً؟

لأن اتباعه أمر إلهي، وشرط لقبول الأعمال، وهو الطريق الوحيد لتحقيق الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة، كما أنه التطبيق العملي للقرآن الكريم.

كيف أطبق هدي النبي في حياتي اليومية؟

يبدأ التطبيق بتعلم سيرته وسنته من مصادرها الموثوقة، ثم الحرص على طاعته في الأوامر والنواهي، والاقتداء بأخلاقه في التعامل مع الناس، وجعله المرجع في كل أمور الحياة.