لعله لم يظهر في زمن من الأزمان انفكاك العلاقة بين الدين والتدين كما ظهر ذلك جليًّا في عصرنا، فلم يعد عالم الدين متدينا بالضرورة، كما لم يعد المتدين عالمًا بالدين بالضرورة، فأصبح من المألوف أن تجد عالم الدين من غير المتدينين، إنما كل علاقته بالدين أنه عالم به فحسب، فالدين عنده صنعة لا طبع، ثقافة لا أخلاق، فكر لا عمل، تنظير لا تطبيق!
دين بلا تدين
نعم، ربما كنا نجد عالم الدين في عصر من العصور منبطحًا أمام السلطان، خائفا من الجهر بالحق أمامه، ساكتا عن مناصحته، لكننا لم نكن نفقده في باقي أودية الدين، فلا يمنعه رسوبه أمام السلطان من نجاحه في العبادات والمعاملات التي لا يُخشى فيها من سيف السلطان الجائر، لكن الجديد الذي تسجله هذه المقالة ظهور عالم دين بلا تدين أصلا، إنما ساقه القدر ليكون عالم دين، فكان، لكن ليس عنده عاطفة نحو الدين أصلًا، ولا انجذاب لحمل الدين من الأساس، ساقه تعلمه في المدارس الدينية مثلا، ذلك الأمر الذي لم يكن بإرادته ولا رغبته، ولكنه كان قرار أهله وقت كان طفلًا صغيرًا.
الخمر بين الدين والتدين
رأينا التدين في شاب مثل محمد الشناوي، حارس مرمى المنتخب المصري، وهو يرفض تسلم جائزة أفضل لاعب في مباراة أوروجواي ببطولة كأس العالم روسيا 2018م، يرفضها بسبب أنها مقدمة من إحدى الشركات المتخصصة في صناعة الخمور!
بينما كان عالم الدين مستغرقا في التراث الإسلامي ليستحيي رأي الإمام أبي حنيفة من موات بأن الخمر المحرمة هي الخمر المصنوعة من العنب فقط، وأما الخمور المصنوعة من غير العنب لا تدخل في مسمى الخمر شرعا ولا لغة !
المتدين هنا لا يبحث عن حيلة للتخلص من الدين، ولو كانت الحيلة في رأي شاذ، عابه الفقهاء وخطأوا صاحبه مذ قال به على مر السنين، بينما عالم الدين يبحث عن ثغرة تمكنه من الوصول إلى نشوة الخمر في قول هنا، أو قول هناك، بحثَ المحامي في ركام القوانين البشرية عن ثغرة تبرئ المتهم المذنب!
معهد ديني لا يهتم بالصلاة!
في معهد ديني وجدنا المتدين في مجموعة من الطلاب يجاهدون بغية إقناع الإدارة أن تجعل وقت الفسحة عقيب أذان الظهر لا قبله؛ حتى يتمكنوا من أداء الصلاة جماعة في وقتها، بينما نجد عالم الدين في الإدارة التي ترفض مطلب الطلاب متعللة بأن صلاة الجماعة على مذهب جمهور العلماء ( سنة) لا واجب، وبإمكان الطلاب أن يصلوا فرادى إذا عادوا إلى بيوتهم!
فإذا ذكر الطلاب تخوفهم من خروج وقت الظهر بدخول العصر قبل أن يصِلُوا إلى بيوتهم، رأيت عالم الدين يعلمهم أن الانتظام في حصص العلم ضرورة تبيح جمع صلاتي الظهر والعصر جمع تأخير!
ثم يعود الطلاب على وقع دقات الجرس إلى مقاعدهم ليدرسوا في مادة الحديث قوله ﷺ : “…ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا يصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار [ متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1/ 129)] يدرسونه من كتاب فتح المبدي بشرح مختصر صحيح البخاري للزبيدي!
وفيه يبين الشارح الشيخ عبد الله الشرقاوي الرأي القائل بفرضية صلاة الجماعة استنادا لهذا الحديث، كما يبين الرأي المقابل بأنها سنة مؤكدة، ويبين رد أصحابه على الاستدلال بهذا الحديث، تاركًا القولين دون ترجيح! [فتح المبدي 1/244 ].
الرازي وماعز بن مالك
يجد عالم الدين بغيته، وكأنما وقع على كنز في قول الرازي، وهو يعدد فضائل العلم :”إِذَا كَانَ السَّارِقُ عَالِمًا لَا تُقْطَعُ يَدُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ : كَانَ الْمَالُ وَدِيعَةً لِي، وَكَذَا شارب الخمر يَقُولُ : حَسِبْتُهُ خَلَّا، وَكَذَا الزَّانِي يَقُولُ : تَزَوَّجْتُهَا فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ ! [تفسير الرازي (2/ 411)].
بينما يمكننا أن نرى التدين متجسدا في ماعز بن مالك حينما جاء إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله طهرني فقال: «ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه» . فقال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني. فقال النبي ﷺ مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قاله له رسول الله ﷺ: «فيم أطهرك؟» قال: من الزنا قال رسول الله ﷺ: «أبه جنون؟» فأخبر أنه ليس بمجنون فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر فقال: «أزنيت؟» قال: نعم فأمر به فرجم فلبثوا يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول الله ﷺ فقال: «استغفروا لماعز بن مالك لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» [ رواه مسلم].
معروف الكرخي وأحمد بن حنبل
كاد هذا الانفصال بين الدين والتدين يظهر مبكرا في المائة الثالثة للهجرة في مجلس حضره الإمام أحمد بن حنبل، فعن عبد العزيز بن منصور قال: سمعت جدي يقول: كنت عند أحمد بن حنبل، فذُكر في مجلسه أمر معروف الكرخي، فقال بعض من حضر: هو قصير العلم[ أي ليس من كبار العلماء] فقال أحمد: أمسك، عافاك الله، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف. «تاريخ بغداد» 13/200.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم؟ فقال لي: يا بني كان معه رأس العلم، خشية الله تعالى. «تاريخ بغداد» 13/201.
فهنا يعيد أحمد الأمور إلى نصابها الصحيح، أن علم الدين لا يُطلب لذاته، ولكنه يطلب لكونه وسيلة إلى خشية الله، فإذا لم يورث صاحبه الخشية كان وبالا عليه.
ويضع الخطيب البغدادي في هذا المعنى مؤلفا بعنوان : اقتضاء العلم العمل.
حينما أصبح الدين صنعة
لكن هذا الميزان اختل اليوم، فأصبح علم الدين يُطلب لا للتدين، ولا للخشية، فافترق الدين والتدين، على النحو الذي افترقت عليه علوم الدنيا والاستفادة بها، فأصبح من المعتاد أن نرى الطبيب المدخن، وهو أعلم الناس بأضرار التدخين، فلم يعد العلم يقتضي العمل، ولا العلم بالدين يقتضي التدين به!
ورحم الله الإمام أبا حامد الغزالي الذي يبين هذه الظاهرة، وأنه أصابه منها بعض لوثتها لولا أت تداركه الله بفضله ومنه، قال، وهو يتحدث عن نفسه يوم كان أكبر قامة علمية في دولة ( نظام الملك) قال : ” وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يُكسب الجاه، فأدعو إليه بقولي وعملي، و كان ذلك قصدي ونيتي”.