في سبتمبر القادم من العام الجاري 2014 ستمرّ 1226 سنة على رحيل عبد الرحمن الداخل الملقّب بصقر قريش ، (وُلد عبد الرحمن الداخل في دمشق مارس731، وتُوفّي في قرطبة سبتمبر788م).
لقد ترسّخت هذه الشخصية التاريخية الفريدة في تاريخ الأندلس على إمتداد العصور والدهور، فمثلما نحتفي نحن بهذه الشخصية العربية الإسلامية التي لعبت دورا حاسما في إقامة أركان صرح الدّولة الإموية، وبناء الحضارة الإسلامية فى الأندلس، كذلك يحتفي به الإسبان على إختلاف مشاربهم من دارسين، وباحثين، ومؤرخين، وساسة، وشعراء،ومفكرين ، وسينمائيين ،فها هو ذا تمثاله أو مجسّمه الشامخ يرتفع فى الأعالي، فى عنان الفضاء الواسع على ساحل مدينة المنكّب الإسبانية – حاليا يُطلق عليها الإسبان إسم ألمونييكر- يبلغ طول هذا المجسّم تسعةَ أمتار، وقد رُفِعَ على أكمة فى نفس المكان الذي وطئ فيه عبد الرحمن الاوّل أديمَ هذه الجزيرة المحروسة سنة 138هـ= 755 م .
لهذه الشخصية الفذة، لهذا الصقر القرشي الفريد بشبابه النضر، وبعد نظره الثاقب، وبحكمته البليغة وطموحه المبكر، حظوة كبيرة خاصة لدى الاسبان، كتابا ،وشعراء، ومسؤولين بل ومواطنين عاديين، وقد صدرت بشأنه في إسبانيا عدة كتب ودراسات، وعُقدت حوله الندوات واللقاءات في مناسبات شتى، هذه الشخصية التي استحوذت على قلوب الاسبان، توّج إعجابهم الجماعي بها بإنتاج فيلم سينمائي مطوّل كبير حول حياة هذا الأمير الأموي الهارب من بطش بني العبّاس الذي هيأ لي القدر فرصةً رؤيته والإستمتاع به به مؤخرا فى نسخته الإسبانية ، وعلى الرغم من أن الفيلم حقق نجاحا منقطع النظير منذ بضع سنوات فى إسبانيا ،إلاّ أنه لم يحظ بكبير إهتمام حتى الآن فى البلدان العربية ،ترجمةً أودبلجةً، أو توزيعا أو تعريفا ،أو إنتشارا أو ذيوعا.
و ” المنكب”… التي نزل بها عبد الرحمن الداخل مدينة ذات إسم عربي فصيح، تسمى اليوم فى اللغة الإسبانية ” ألمونييكر” وهي ثغر جميل يقع على بعد 80 كلم من مدينتي مالقة و من غرناطة، و أوّل ما يثير الانتباه في هذه المدينة ويفاجىء زائرها ،عربياً كان، أم أمازيغياً أم أجنبياً ويملأه فخراً، واعتزازاً،وإعجاباً هو تمثال عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش) الذي ينطلق شامخا في عنان الفضاء بمحاذاة شاطىء البحر الأبيض المتوسط، في عين المكان الذي نزل فيه أرضَ إسبانيا، ووطئ أديمها. و قد تمّ تنظيم العديد من التظاهرات الثقافية بهذه المدينة فى تواريخ متفاوتة ،ومناسبات شتّى حول فنّ العمارة في الأندلس بشكل خاص، والطبّ الأندلسي فضلا عن لقاءات أخرى عديدة حول الشعر والأدب والتاريخ إلخ، والتي تشرّفتُ بالحضور فيها، والمشاركة فى فعالياتها ،وأعمالها فى العديد من المناسبات.
طريق الشّمس
شريط عبد الرحمان الدّاخل أو صقر قريش الذي وضعوا له عنوان: ” الأندلس طريق الشمس” تمّ تصويره في منطقة “ أرفود ” بجنوب المغرب، وقد قدّم هذا المشروع السينمائي الكبير للعالم صفحةً ناصعةً بيضاء من صفحات تاريخنا الإسلامي المجيد في الأندلس.وقد ركّز الشريط على فترة زمنية معينة تنحصر في فرار عبد الرحمن الداخل من بطش العباسيين، ومعايشته لتجارب مريرة وقاسية في الصّحراء مختفيا، متنكرا حتى وصل إلى قبيلة “ نفزة ” البربريّة بشمال إفريقيا موطن أخواله البربر لأن أمّه كانت نفزاوية.
وفي هذه القبيلة سوف يبلي الداخل البلاءَ الحسن في الفروسية، و ركوب الخيل، ومواجهة الصّعاب، والتمرّس على المحن، ومعايشة البربر في أفراحهم وتغنيهم بالطبيعة وعشقهم للحريّة والحياة الكريمة والتحلي بالشجاعة والمروءة والأنفة، بل إنه سوف يتزوج ابنةَ زعيم البربر هلال، ثم سوف يهيء له صحبه فيما بعد خاصة مولاه ” بدر” مع بعض مساعديه وأنصاره إنطلاقاً من المغرب – بالقرب من مدينة سبتة المغربية السليبة- أسباب الانتقال إلى الأندلس ونزوله بمدينة المنكّب، ومواجهته لجميع المخاطر التي تحاك هناك، وبعد أن إستتبت له الأمور، أقام أركانَ الدولة الأموية في الأندلس، وتمّ تنصيبه أميراً حيث طفق يجني الإنتصارات، ويحقّق العمران، ويعمل على توحيد صفوف الفاتحين من مضريين، ويمانيين، وبربر، ونبذ الخلافات،والمنابذات، والمشاكسات فيما بينهم، ويبني مجتمعا قائما على التسامح الديني، والتعايش بين جميع الأعراق والأجناس .
حياة متنقلة
حريّ بنا أن نلقي نظرة عَجْلىَ على أهمّ الأحداث التي واكبت عبد الرحمن الداخل وكيف تعرض للعديد من المخاطر والصّعاب ، منذ خروجه من الشام ودخوله الأندلس. فبعد إنهيار الدولة الأموية، إنطلق العبّاسيون يقتفون أثرهم في كل مكان، ويسومونهم أقسى أنواع العذاب و التنكيل، ويطالبون بالقضاء على كلّ من كان ينتمي إلى بني أميّة ، وكان أشدّ الناس تنكيلاً بهم الأمير ” عبد الله بن علي العباس ” المعروف بالسفّاح، الذي لجأ – حسب ما تذكر كتب التاريخ – إلى حيلة حيث أظهر لهم الأمانَ، ووعدهم بالصّفح عنهم ،إلاّ أنه إنقضّ عليهم بعد جمعهم في وليمة وقضى عليهم، ولما إنتهى إلى عبد الرحمن خبر ذلك الفتك، نجا بنفسه، وفرّ هارباً متنقلاً من بلد إلى بلد، وهم يطاردونه حتى وصل إلى قبيلة “ نفزة ” بشمال إفريقيا.
ثم فكّر في الإنتقال إلى الأندلس نظراً لما كان يسودها من فتن وخلافات وحروب مستعيناً بموالي بني أمية في الأندلس، وقد ركّز الشريط على الجانب المتعلق بالشّطر الأوّل من حياة عبد الرّحمن وَوُفِق المخرج في إظهار غِلْظة وقساوة بني العبّاس في تلك الحقبة والبطش الذي ألحقوه ببني أمية، معتمداً على إبراز اللّون الأسود شعار بني العباس، موظِّفاً التصوير البطيء لإعطاء دلالة أعمق وأوقع للحدث، كما وُفِّق المخرج في تصوير حياة عبد الرّحمن الدّاخل متنقلاً بين الفيافي والقفار وجنود بني العباس يقتفون أثره، ويطاردونه ويتبعون أخباره، ويغرون بالأموال الطائلة مَنْ يستطيع الفتكَ به أو إلقاء القبض عليه.
كان عبد الرحمن الداخل حين وقوع هذه الأحداث، ما زال شاباً يافعاً في مقتبل العمر لم يتجاوز العشرين من عمره، إلاّ أنه كان يتّصف بحكمة الشيوخ الذين حنّكتهم التجاربُ وَمِحَن الحياة، وقد إستطاع صحبة قلّة قليلة مِمّن آزروه وساندوه (ثلاثمائة) أن يقهر العصبيات ويهدّئ من رَوْع النزاعات ،والمنابذات، ويواجه أكبرَ دولتين في ذلك الوقت، وهما دولة بني العباس في المشرق، والدولة الشارلمانية في أوروبا.
موقعة “ المصارة“
لم يتعرّض الشريط لموقعة مشهورة وفاصلة في حياة عبد الرحمن الداخل غداة وصوله إلى الأندلس وهي واقعة “المصارة”على نهر الوادي الكبير سنة 775م حيث راسل عبد الرحمن خصمّه يوسف بن عبد الرحمن الفهري عارضاً عليه أنه في أيام عيد الأضحى لا يصحّ سفك الدماء، إلا أنه إقترح عليه عبور النّهر، فلمّا تحقق له ذلك، إنقضّ عليهم وحقّق النصر ثم دعا لنفسه أميراً للأندلس، حيث دخل قرطبةَ ظافراً، وكان ذلك بداية تأسيس الدولة الأموية في شبه الجزيرة الإيبيرية.
كما لم يبرز الشريط بشكل موسّع صراعه ووقوفه أمام القوتين العظميين دهرئذ وهما دولة العباسيين وشارلمان ملك الفرنجة المشار إليهما من قبل. لم يبرز محاربته لأبي العلاء بن مغيث الذي كان والياً على إفريقية لأبي جعفر المنصور فأراد أن يقضي على عبد الرحمن وأن يجعل الأندلس ولايةً عباسية. ولا حملة هشام بن عبد ربه الفهري الذي ثار في طليطلة تمهيداً لحملة أبي العلاء ودعا هو الآخر لبني العباس، إلاّ أنّ عبد الرحمن زحف على طليطلة وشدّد عليها الحصار حتى سقطت المدينة في يده.واجتاز أبو العلاء إلى الأندلس في سبعة آلاف مقاتل ونزل إقليم باجة حيث إعتصم الداخل ” قرمونة ” مع سبعمائة محارب مدة شهرين، ثم قام وأمر بنار، فلما أوقدت، طلب من أصحابه بأن تلقى أجفان سيوفهم فيها وقال لهم حسب ما ورد في أشهر الروايات : “أخرجوا معي خروج مَنْ لا يحدّث نفسَه بالرّجوع”. وهجم عبد الرحمن وصحبُه على خصومهم وقضوا عليهم قضاءً مبرماً.
غفل الشريط الهزيمة المنكرة التي ألحقها عبد الرحمن بشارلمان ناحية سرقوسطة فانسحب متكبداً خسائر فادحة. غير أنّه بّين قضية تودّد شارلمان لعبد الرحمن ودعوته لعقد معاهدة يأمن فيها كل منهما جانب الآخر، فعرض عليه المصاهرة بتزويجه إبنته دعماً وتوثيقاً للرابطة بينهما، إلاّ أنّ هذه المصاهرة لم تتمّ.
ومن العناصر التي هيّأت لهذا الشريط أسبابَ النجاح
-خلوّه من أيّ ميول نحو أيّ جانب على حساب الجانب الآخر، بل إنه حاول تقديم الأحداث بنزاهة معتمداً على الرّوايات التاريخية الشهيرة حول شخصية عبد الرحمن.- أحداث الفيلم لم تتّسم بالبطء، بل لجأ المخرج إلى توظيف الظروف المتداخلة التي مرّت بعبد الرحمن في شكل قَصَصِي شيّق ومتتابع معتمداً على الحركة،والإثارة، والإنتقال من مشهد إلى آخر، مع إستخدام عنصر التشويق بذكاء. – مراعاة الشريط لتقاليد كلّ بلد أو بقعة تدور فيها الأحداث من أزياء و غناء وفولكلور.. إلخ.
وتنتقل أحداث الفيلم ما بين المشرق العربي، وشمال افريقيا، والأندلس. -الموسيقى التصويرية كانت رائعة وقوية وعنيفة تنسجم مع التطلع، والفوران اللذين كانا يعتملان في نفسية عبد الرحمن القلقة، وتترجم الطموح الكامن بداخله. – التركيز على عناصر لها صلة مباشرة بحياة العرب، والبربر وارتباطهما بها بل والنظر إليها بفلسفة خاصة، القمر، الذي يتحول فجأة إلى هلال، وهو رمز لشعائر المسلمين، البحر الذي لعب دورا مهما في حياة عبد الرحمن الداخل، فلولاه لطالته سيوف العبّاسيين وهو الذي ركبه ونجا ، ووراءه كان ينتظره عالم آخر جديد، آزره وسانده، وساعده على تكوين الدّولة الأموية من جديد. – يضاف إلى ذلك عنصر الصّحراء، والجِمال، والخيول، والخيام، فضلاً عن إستغلاله لعامل الطبيعة (القيظ، الزمهرير، الغروب، الفجر،الغسق، الشفق) كلّها رموز تعبّرعن القلق الداخلي،والتحوّل الذي كان يعتمل فى داخله ،والتطلّع نحو الهدف الذي كان يسعى لتحقيقه . – وبالجملة سلّط الشريط الأضواءَ الكاشفةَ على صفحة مشرقة من صفحات تاريخ الإسلام في الأندلس حيث قامت حضارة إنسانية راقية من طراز رفيع أشعّت على العالم المعروف في ذلك الأوان.
وجُسِّدت شخصية عبد الرحمن الداخل كذلك من جهة أخرى في مسلسل يحمل عنوان” صقر قريش ” من إخراج السوري حاتم علي، وقد تمّ تصويره في كلّ من المغرب و سوريا ، و قد جسّد دوره الممثل السوري المعروف جمال سليمان، واشترك فيه نخبة من ألمع نجوم الدّراما السورية والمغربية.