يُعدُّ كتاب “عبقرية محمد” أشهر ما كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد (1889 – 1964) في باب “الإسلاميات” ضمن مجموع ما ألّفه، وفيه من حسن البيان وقوة الحجة وسعة الثقافة وصدق الإيمان وشواهد المحبة للنبي الكريم ﷺ ما يجعلك تتأكد أن سعة الإطلاع والاغتراف من الثقافات المختلفة يفتح أمام العقل آفاق الحق، لأن “الحكمة تشهد للحكمة” كما يقول القاضي أبو الوليد ابن رشد الأندلسي الحفيد (520هـ – 595هـ/ 1126م – 1198م).
الإطّلاع على ثقافات “الآخر” (وهل الآخر إلا “أنا” نشأت في بيئة موازية) ليس طريقا إلى الزندقة أو الكفر والإلحاد، ولطالما دأب “مشايخ” – بتُّ أراهم إلى السّدنة والكهنة أقرب – يُحذّرون المنعتقين من قيد الرؤية الأحادية فإن فشل تحذيرهم حذّروا غيرهم منهم، بذريعة أنهم كائنات أصابها الاستلاب وتحولت إلى مرآة عاكسة لثقافات هي في ميزانهم كفر وبدعةٌ وضلالةٌ. ونال كتاب “عبقرية محمد” نصيبه من هذا التحذير، وقد تحوّل الدين – للأسف – إلى سلعة تنال نصيبها من الاحتكار والمضاربة في الأسواق.
سبق وأن قرأتُ “عبقرية محمد” منذ ما يربو عن 12 سنة، لكنّ حديثا مع الأستاذة الكاتبة “رحاب شريف” شجّعني على مطالعته بَنَفَسٍ مُتجدد، فقرأته بعقل غير الذي قرأته به من قبلُ، ولئن كانت صورة محمد ﷺ عندي سامية لم تشبها يوما شائبة ولم تعكّر صفاءها تهمةٌ أطلقها مستشرق حاقد (وليس كل المستشرقين حاقدين)، أو شاكٌّ مُتحيّر، أو رجلٌ استقبل إشارات مشوّشة جعلته يقف من هذا الإنسان العظيم والنبي الكريم موقف ريبة أو تُهمة، لئن كان ذلك كذلك، فإن مقام الأستاذ العقّاد سما في نفسي، وقد كان يحتلُّ من قلبي مكانة عالية قبلُ، وهناك فرقٌ بين مكانة يرسمها الإنسان لشخص وهو في مقتبل العمر ومكانة يرسمها بعدما بلغ أشدّه وصار يرى العالم بغير العين التي قد كان يراه بها من قبلُ.
مكتبتنا الإسلامية حافلة بمؤلفات حول سيرة النبي ﷺ، لكنّنا بعد صدمة كصدمة الرسوم المسيئة نستدعي الأسئلة ذاتها كما لو أنها تُطرح لأول مرة: ما هي شخصية هذا النبي؟ وما الذي قام به؟ وكيف وفّق بين الأدوار المتعددة التي تحمّلها: أبا وزوجا وفردا في قبيلة ونبيّا رسولا، فقاضيا وحاكما ومحاربا وداعية واعظا، وإنسانا يحمل رسالة السماء إلى الناس كافة؟ وكيف يُردُّ على من اعتبر أن فيه خصالا لا تندرج ضمن الخصال الإنسانية التي يفخر الإنسان باعتبارها مثلاُ أعلى؟
حينها نقلّب صفحات هاته المكتبة – على كثرتها – لكننا لن نجد سوى بضعة كتب تخاطب إنسان هذا العصر بلغته التي يفقهها، سواء كانت لغة الخطاب، أو لغة المشاعر، أو لغة التفكير والتحليل المنطقي. ولهذا كانت كتابات غير المسلمين حول شخصية رسول الإسلام تحظى باهتمام كبير من طرف المسلمين أنفسهم مثل كتاب (توماس كارليل) المسى “الأبطال”، إذا كان فيها قبس من الموضوعية والحكم بعظمة محمد.
كان كتاب (كارليل) المدخل الذي قاد العقاد إلى كتابة “عبقرية محمد”، فقد تساءل هو وثُلةٌ من أصدقائه بمن فيهم المازني: “ما بالنا نقنع بتمجيد “كارليل” للنبي، وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه، ولا يعرف الإسلام كما نعرفه” (4)، وسأله بعضهم أن يؤلف كتابا عن رسول الإسلام “على النمط الحديث”. فوعدهم بأن يكون ذلك قريبا.. لكنّ الكتاب لم ير النور إلا بعد ثلاثين سنة!
وفرقٌ كبير بين أن يكتب الإنسان كتابا قبل وبعد ثلاثين سنة قضاها في عالم الفكر والقراءة والثقافة، لاسيما إن كان هذا الشخص هو عباس محمود العقاد الذي أطلق لنفسه عنان التأمل والتساؤل: “أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟.. إنها مسافاتٌ في عالم الفكر والروح.. لو تمثّلتْ مكانا منظورا، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار وامتداد النظر بغير قرار” (5).
وأوضح الأستاذ العقاد أن كتابه ليس “شرحا للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعا عنه، أو مجادلة لخصومه”، لكنه “تقدير لعبقرية محمد بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يُثبتُ له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم كفى”، ثم واصل: “فمحمد هنا عظيم.. لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس.. عظيم لأنه على خُلُق عظيم..” (6).
ولم ينس الأستاذ أن يؤكد على أن تقدير النبي ﷺ “لَنافعٌ لمن يُقدّرون محمدا، وليس بنافع لمحمد أن يُقدّروه.. لأنه في عظمته الخالدة لا يُضارُّ بإنكار، ولا ينال منه بغي الجهلاء إلا كما نال منه بغي الكفّار” (8).
بعد ذلك يُبحر بنا العقّاد في رحلة مُمتعة، فيتحدث عن “علامات مولد” (11) و”عبقريّة الداعي” (19)، ثم يتطرق إلى “عبقرية محمد العسكرية” (28) ويعقد مقارنة بينه وبين أشهر قائد حربي في الزمن الحديث “نابليون بونابرت”، و”عبقرية محمد السياسية” (57) و”عبقريته الإدارية” (64)، قبل أن يُعرّج بالحديث عن بلاغته (69) وعن محمد كصَدِيق (79) ورئيس (88) وزوج (91) وأب (118) وسيّد (127) وعابد (133) ومحمد الرّجل (140) ثم أثره في التاريخ (150).
كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي كتاب “الظاهرة القرآنية” وهاجسه تقديم قراءة معاصرة للسيرة النبوية تعتمد على أدوات المعرفة المعاصرة في علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة اللغة، حتى يفهم غير المسلم روح الإسلام كما يفهمها المسلم (أو يفترض أن يفهمها!)، وبهذا النَّفَس كتب الكتّاب الأدباء مثل توفيق الحكيم وطه حسين والعقاد وغيرهم.. الهدف: إزالة غبار الجهل والواقع الإسلامي المرّ عن صورة مشرقة هي أشد ما تكون عليه الصورة إشراقا في عالم البشرية المرتبط بالوحي.. والتوفيق بين شريعة السماء وفلسفات الأرض.. غير أن هذه الجهود أبطأت مسارها منذ منتصف القرن العشرين، ولم نعد نجد كتّابا يحملون نفس المشعل ويتفاعلون مع البيئة الثقافية الجديدة وعصر التقنيات الرقمية، مع أن الداعي إلى التعرف عليهم أشد وأكبر وأيسر.
المحزن في هذه العلاقة بيننا وبين نبيّنا أننا نزعم نُصرته فنرتكب في سبيل ذلك كل ما نهى عنه! ولهذا تبدو إعادة قراءة سيرة محمد ﷺ أكثر من ضرورة لنا كمسلمين، قبل أن يقرأها غيرنا.