عرض مرويات السنة النبوية على كتاب الله الكريم للفحص والتمحيص، قول صدر قديما نسبيا واستجد حديثا، صدر قديما من غير أهل التخصص وتعالت به صيحات الحداثيين وأشباههم، وصار منهجا من مناهج الحكم على الحديث صحة وضعفا متبعا عند القوم دون وعي سديد، ومرد هذا المعيار المنهجي إلى الأثر والنظر.

 أما الأثر فهو حديث “إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فإذا وافقه فاقبلوه، وإن خالفه فردوه” [1]

وحديث: “ما جاءكم عنِّي فاعرضوه على كتاب اللّه فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله”[2]

وحديث: “الحديث عنّي على ثلاث، فأيّما حديث بلغكم عني تعرفونه بكتاب الله تعالى فاقبلوه، وأيّما حديث بلغكم عني لا تجدون في القرآن ما تنكرونه به ولا تعرفون موضعه فيه فاقبلوه، وأيّما حديث بلغكم عني تقشعِرّ منه جلودكُم وتشمئزُّ منهُ قلوبكُم وتجدون القرآن خلافه فردوه”.[3]وغيرها من الآثار المنقولة من بعض الدواوين المختلفة.

وأما النظر، فإنه يتمثل في منزلة السنة من القرآن من حيث ثبوت الرواية والأخذ، فالقرآن أعلى ثبوتا وآكد أخذا، فثبوته جاء متواترا وبالاستفاضة، وهذا الوصف الذى يفتقده الخبر النبوي في الغالب، ولذا يجب عرضه على القرآن ليتبين صحيحه من سقيمه، و”لأن الخبر إنما يجب قبوله بتكامل شرائط القبول فيه، ومن شرائطه أن لا يكون مخالفاً لكتاب الله تعالى، وإنما يعرف ذلك بالعرض”[4]. على ضوء ما يقرره بعض علماء الحنفية والمتكلمون.

يقول أبو المظفر السمعاني:” وذهب جماعة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يجب عرضه على الكتاب فإن لم يكن فى الكتاب ما يدل على خلافه قبل وإلا فيرد، وذهب إلى هذا كثير من المتكلمين.[5]

وقال أبو زيد الدبوسى الحنفي:” خبر الواحد ينتقد – بعد ثبوته – من وجوه أربعة – ثم ذكر منها-: العرض على كتاب الله تعالى، ورواجه بموافقته، وزيافته بمخالفته…لأن كتاب الله تعالى ثابت يقيناً وخبر الواحد ثابت ثبوتاً فيه شبهة فكان رد ما فيه شبهة باليقين أولى من رد اليقين به”. .”[6] وغير ذلك من الأقاويل المؤيدة لنظرية ضرورة عرض السنة على الكتاب.

تقييم مأخذ الأثر والنظر

وقد اتكأت الحداثة على مثل هذه الآثار والأقوال وطاروا بها لدعم القول بمنهجية عرض الحديث الشريف على القرآن العزيز، ليتسنى لهم بعد ذلك توظيفه في تسويق أفكار التشكيك والهجوم على السنة النبوية، وخاصة في السنن التي لم تتفق مع ميولهم وعقولهم، لكن الحقيقة الحاضرة هنا بجلاء، أنهم لم يسعدوا بشيء من تلك الآثار المرفوعة، لكونها مردودة ولا يصح منها شيء، بل بعضها من صنعة الزنادقة كما قال ابن مهدى وابن معين وغيرهما من نقاد الحديث.

وقد تنازل بعض العلماء عن العمل بهذه النظرية – جدلا- فأجالوا الفكر في هذا الطرح،وظهر لهم ما يلي: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث رسول الله إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته، ويحذر المخالفة عن أمره جملة على كل حال.[7]  

وأما النظرية التي أثيرت ونسجت حول الموضوع- نقد السنة من خلال عرضها على القرآن – فهي نظرية داحضة، لأنها نشأت عن قلة الاطلاع والخبرة بمنهج المحدثين في النقد، والقائلون بها ليسوا من أهل الصنعة والاختصاص، وإن كان بعضهم من أهل العلم بالفقه الأفاضل، لكن البحث هنا بحث في علم الحديث، فهذا الاختيار منهم لا ينتظم مع المنهج النقدي الحديثى، ولم يجنح إليه علماء الحديث كمبدأ  التصحيح والتضعيف، بل لا يقول به أئمة الحنفية القدامى على الصحيح، وإنما هو مسلك جديد سار عليه متأخرو  المذهب بدءا من عيسى بن أبان البصري الحنفي المتكلم ثم اشتهر في المذهب بعد ذلك.

وقولهم:” لأن كتاب الله تعالى ثابت يقيناً وخبر الواحد ثابت ثبوتاً فيه شبهة فكان رد ما فيه شبهة باليقين أولى من رد اليقين به ” نعم! الكتاب متيقن به بلا ريب لكن “إن دعوى احتمال الشبهة في صحة اتصال أخبار الآحاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي كدعوى من يدعي أن هذا العام مخصوص ولا مخصص، أو أن هذا الدليل المطلق مقيد ولا مقيد، أو أن هذا الحكم منسوخ ولا وجود لناسخه ونحو ذلك، فما أسهل الدعاوى!!!.[8]

ثمليس البحث في أخبار الآحاد مطلقاً، ولا من حيث الناحية النظرية فهذا لا قيمة له. وإنما البحث في إفادة الخبر الصحيح المسند المروي من طريق الآحاد والذي دُوِّن في دواوين أهل العلم كالصحيحين”[9] وغيرهما مما لا جدال في قبوله، والقول بإفادتهالظن قول سبق إليه المعتزلة وأذنابهم وأشادوا به، وهو قول يشوبه لبس الحق بالباطل فأرادوا به عدم حجية الخبر الواحد في العقيدة بناء على زعم عدم التيقن بصحته، والذي عليه جماهير الأمة سلفا وخلفا أنه يوجب العمل حتى عند القائلين منهم بظنية أخبار الآحاد، لأدلة متظافرة تراها في كتب شروح الحديث والعقيدة والفقه وغيرها.

ولا داعية إلى تأسيس مبدأ وجوب عرض حديث ثابت على القرآن الكريم قبل العمل به حتى يعلم مدى موافقته أو مخالفته؛ بدعوى شبهة صحة الاتصال.  

علاوة على أن هذا المسلك مسبوق بإجماع الفقهاء والأصوليين القائم على الرضا التام بمنهج المحدثين النقدي في التصحيح والتضعيف وأن هذا الشأن والصنعة حكر عليهم، لأن منهجهم كفيل وأمين لنقاء وبقاء السنة النبوية، ألا يكفي ويغني  عن استعمال العرض على القرآن أن من شروط صحة الحديث نفي الشذوذ وعدم العلة؟ وهما أشد شروط الصحة على الإطلاق، لأن مجالهما مجال الاستدراك على الرواة الثقات والكشف عن أخطاء مروياتهم وأوهامهم، وإذا انعدم الشذوذ والعلة في الحديث – سندا ومتنا- مع توفر بقية الشروط فلا داعي بعدها إلى منهج الشك وترويج الشبهة في السنن الثابتة بأن تعرض على القرآن، إذ أثبت الواقع أنه لا وجود لدليلين صحيحين متعارضين في شريعة الله تعالى.

قال الإمام ابن حزم: ليس في الحديث الذي صح شيء يخالف القرآن الكريم ولا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلاً، وكل خبر شريعة فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسر لجملته، وإما مستثنى منه لجملته، ولا سبيل إلى وجه ثالث.[10]

قال الإمام الشافعي:” قول من قال: تعرض السنة على القرآن فإن وافقت ظاهره وإلا استعملنا ظاهر القرآن وتركنا الحديث جهلٌ لما وصفت، فأبان الله لنا أن سنن رسوله فرضٌ علينا بأن ننتهي إليها لا أن لنا معها من الأمر شيئا إلا التسليم لها واتباعها، ولا أنها تعرض على قياس ولا على شيء غيرها”[11]

وقال أبو المظفر السمعاني- خلال رده على الدبوسي الحنفي في هذه المسألة-: الخبر حجة في نفسه إذا ثبت، ولا يجب عرضه، وكان تخصيص عموم الكتاب به جائز… وقال سبحانه وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] فأمر باتباع سنن الرسول كما أمر باتباع آى كتاب، وإذا كان كذلك وجب قبول ما ثبت عنه ولم يجز التوقف عنه إلى أن يعرض على الكتاب، وهذا لأنه حجة فى نفسه فلا يجب عرضه على حجة أخرى حتى يوافقها أو يخالفها “[12]

ومما يدحض هذا المبدأ أيضا حديث”ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه .. .”[13]

يقول الخطابي في شرحه للحديث:”وفي الحديث دلالة على أنه لا حاجة بالحديث إلى أن يعرض على الكتاب؛ فإنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه”[14]

ثم إن المصير إلى وجوب عرض الحديث على القرآن يحمل في طياته عدم تقدير جهود المحدثين في تقعيداتهم النقدية، ومن ثم يسوغ لمن لم يمتلك مقومات الفهم النقدي والفهم الشرعي الصحيح التدخل في مسائل قبول ورد الخبر وفق المزاج الفكري كما هو مشاهد في عصر الناس هذا.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “ولو ساغ رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن وبطلت بالكلية، فما من أحد يحتج عليه بسنة صحيحة تخالف مذهبه ونحلته إلا ويمكنه أن يتشبت بعموم آية أو إطلاقها، ويقول هذه السنة مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تقبل”[15]

وقصارى القول أن هذا الحرم العلمي الحديثي له أهله ونقاده، وعنهم وإليهم يجب الرجوع والصدور، والسير على منهجهم واجب القول والعمل، حفاظا على حياض الدين وإخفاقا لمساعي العابثين.

عرض السنة على الكتاب لقصد الفهم والتثبت

لا ينبغى للخلل أن يتسلل إلى الأذهان ليسبب الخلط بين مسألة وجوب عرض السنة على القرآن وبين ما ينقل عن بعض الصحابة أنهم كانوا يقدمون ظاهر القرآن على السنة، كما في ظاهرة صنيع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مواضع عدة، مثل حديث رؤية النبي لربه ليلة الإسراء، وحديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وحديث الشؤم في ثلاثة وغيرها من الأحاديث التى ربما لا تتجاوز على رؤوس الأصابع.

والصحيح البين من سير الصحابة الكرام العلمية أنهم لم يكونوا يتمذهبون  بمنهج ضرورة عرض الحديث على القرآن ولم يجعلوه أصلا في الحكم على السنة النبوية، وغاية ما يفهم من صنيع عائشة رضي الله عنها، ومن صنيع غيرها من الصحابة أنه ضرب من المحاولة لفهم السنة النبوية على ضوء القرآن الكريم وبما تقرر لديهم من أدلة أخرى، يتوخى منه فهم سليم ومحمل حسن للحديث النبوي، لا للإهمال أو الإعراض الكلي عن الحديث بدعوى التعارض، ولذا يجد المتأمل فيما ورد في هذا الصدد من الروايات أنه ليس محل اتفاق القول بين الصحابة ومن بعدهم، وإنما محل الأخذ والرد لأن المسألة مسألة الاجتهاد والفهم وليست مسألة منهجية.

وانضاف إلى ذلك أن ما ورد في هذا الباب عن عائشة رضي الله عنها وغيرها نزر يسير جدا بجانب عموم مروياتهم، مما يفيد أنهم ما كانوا يلتفتون إلى مسلك عرض الحديث على الكتاب كالأساس، وعليه يجب عدم التعويل على وقائع نادرة وغير صريحة في المطلب، لأن نتيجة ذلك وخيمة وسيئة وهي التى تفضى في النهاية إلى القول بإنكار بعض صحاح السنة أو كلها.

نعم! يجب التفريق بين مذهب الحنفية المتأخرين ومنهج الحداثيين العصريين، فالحنفية هم من أئمة الدين وليسوا من رافضي أخبار الآحاد وحاشاهم، وإنما انطلقوا في هذه القضية من منهجية علمية قد لا تخلو من النظر، مع اعتقادهم بضرورة حجية السنة النبوية وتقديرها حق التقدير.    

وأما العصرانيون والحداثيون وأمثالهم فقد انطلقوا من تحقيق مآربهم الخبيثة للصد عن السنة النبوية، واعتمدوا أسس تقديم العقل وأولويته، وإعادة القراءة الجديدة للتراث الإسلامي حسب وجهتهم.

وكلا الصنفين – الحنفية والحداثة- تشابها في القول واختلفت في القلوب والمقصد، وشتان بين الحنفية المعروفين بالعلم والدين والفضل، وبين المتعالمين الجدد الذين لا يعلمون من الدين إلا لماما.

ويبقى أن الله سبحانه وتعالى قد جعل مناهج المحدثين النقدية عراقيل أمام كل منكر للسنة ومتطفل على موائدها بأي شكل، والحمد لله الرقيب.


[1] – الفوائد المجموعة (291)

[2] –  الأم 1/98 

[3] – أصول الأحكام 1/212   

[4] – كما يقول به عيسى بن أبان البصري. ينظر: بذل النظر في الأصول 1/462

[5]قواطع الأدلة في الأصول 1/365

[6] –  تقويم الأدلة في أصول الفقه 1/196

[7] – ينظر: الإحكام في أصول الأحكام 2/ 79، 80

[8] – رد خبر الواحد بما يسمى ب (الانقطاع الباطن) حقيقته، وحكمه وأثره في الفقه الإسلامي. للدكتورترحيب بن ربيعان الدوسري. مجلة جامعة أم القرى. العدد 24.

[9] – المصدر السابق.

[10] –  ينظر: الإحكام في أصول الأحكام 2/ 215، 216

[11] –  اختلاف الحديث. ص:32

[12] – البحر المحيط في أصول الفقه 6/264

[13] – رواه أحمد في المسند (17174).

[14] – معالم السنن 4/299

[15] -الطرق الحكمية. ص:65