قد لا يبدو أن ثمة مصطلحًا أخذ حظًّا من الشيوع والتداول في حياتنا المعاصرة، مثل مصطلح “الحضارة”، حتى صارت النسبة إليه كافيةً للدلالة على أهمية المنسوب وجلالة قدره؛ فيقال: الأخلاق الحضارية.. التخطيط الحضاري.. الذوق الحضاري.. التدين الحضاري.

وهذه عشر حقائق تلقي ضوءًا مكثفًا على مصطلح “الحضارة”؛ في معانيه اللغوية، وعند أبرز مفكري الحضارة:

1- يسلك “المصطلحُ” رحلة كبيرة، بَدءًا من ولادته لغويًّا ثم ما يحمله عبر الأجيال والأحداث، حتى يستقر معناه إلى درجة ما؛ ومع ذلك يكون قابلاً لحمولات إضافية لاحقة.

2- مصطلح “الحضارة” في معناه اللغوي عَرَفه تراثنا الإسلامي؛ وهو ذو دلالات متعددة ترتبط بالمكان، ومنها الحضر – مقابل البدو- وترتبط بالمكانة، ومنها الحضور والشهود والقرب([1]).

3- مصطلح “الحضارة” في معناه الاصطلاحي مصطلح غربي وافد على ثقافتنا، وإنْ كان مضمونه مستقرًّا في الإسلام الذي رسخ نموذجًا راقيًا معنويًّا وماديًّا في مجالات الحياة كافة.. فمن الملاحظ علميًّا أن المضامين تسبق المصطلحات، وأن عدم ظهور المصطلح لا ينفي وجود مضمونه.

و”الحضارة” ترجمةٌ للفظة الإنجليزية “Civilization”، والتي يعود أصلها إلى عدة جذور في اللغة اللاتينية؛ “Civilties” بمعنى مدينة، و”Civis” أي ساكن المدينة، و”Cities” وهو ما يُعرف به المواطن الروماني المتعالي على البربري. ولم يشتق منها “Civilization” حتى القرن الثامن عشر، حين عرفه دي ميرابو في كتابه “مقال في الحضارة” باعتباره رقة طباع شعب ما وعمرانه ومعارفه المنتشرة بحيث يراعي الفائدة العلمية العامة([2]).

4- ارتبط مصطلح “الحضارة” في الغرب بنشأة “المدِينة” التي اعتُبرت مصدرًا ومنبعًا للقيم التي لم تكن معروفة إلا مع التطور الأخير للمدينة بعد الثورة الصناعية.. بينما “المدينة” في الخبرة الإسلامية هي نتيجة لوجود هذه القيم والأنماط والسلوكيات وليست سببًا لها([3]).. وهذا الفارق يرتبط بأن المنهج الإسلامي مصدره الوحي، وليس الواقعَ الماديَّ كما هو الحال في المناهج الغربية.

5- أسهم ابن خلدون ومالك بن نبي وويل ديورانت- على اختلاف مرجعياتهم وإسهاماتهم- في إثراء مصطلح “الحضارة” وتوضيح مضمونه، بما يبين أهمية التعرف على أفكارهم فيما يتصل بالحضارة وإشكالياتها.

6- يرى ابن خلدون أن “الحضارة” إحدى مراحل عمر الدولة، ومرحلة وسطى بين مرحلة البداوة والخشونة، ومرحلة الترف والفساد المؤْذِنة بانهيار العمران؛ ولذلك اعتبر أن “الحضارة زائدةٌ على الضروري من العمران، وأن الترف زائد على الحضارة”([4])..

بينما يذهب ابن نبي إلى أنها: مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده- في كل طور من أطوار وجوده- المساعدة الضرورية له؛ وأن معادلتها تتكون من: الإنسان، التراب، الوقت؛ ويمثل الدين “المركِّب الحضاري” الذي يمزج بين هذه العناصر الثلاثة([5]).. فيما يعرِّف ديورانت “الحضارة” بأنها: “نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي”؛ وتبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق([6]).

7- يذهب معظم الباحثين إلى أن “الحضارة” مجموعُ “الثقافة” و”المدَنيّة”؛ وأن “الثقافة” تُعنى بالجوانب الفكرية والأخلاقية والفنية، بينما “المدنية” تعنى بالجوانب المادية([7]).

8- إذا كانت “الثقافة” تختص بالجانب المعنوي من الإنجاز الحضاري، فإن د. حسين مؤنس يشير إلى ملمح آخر يميز مفهوم “الثقافة”، وهو كونها تعبر عن البيئة المحلية لجماعة من الجماعات؛ فـ”كلما كانت الظاهرة الحضارية أكثر التصاقًا بطبيعة البلد الذي قامت فيه، فهي ثقافة”([8]).. لكن هذا لا يمنع من أن أي ثقافة لها جانب ذاتي تتميز بها، ويمثل شخصيتها الحضارية المستقلة؛ ولها جانب مشترك تستفيده من الثقافات الأخرى؛ فاتصال الثقافات وتلاقحها أمر ثابت، ليس بوسع منصفٍ أن ينكره.

9- مع التسليم بأن “المدنية” تعني الجانب المادي من الحضارة، فيجب التنبيه إلى أن مصطلح “المدنية” به بعض الالتباس ينبغي إيضاحه والحذر منه؛ ذلك أنه قد تم تعريف “المدنية” في التجربة الغربية في مرحلة من المراحل، بمقابل “الدين” بالمعنى الكنسي وظلاله السوداء القاتمة في هذه التجربة، التي شهدت التمرد على سلطة الكنيسة، لكنها تجاوزت ذلك إلى التمرد على الدين ذاته!! وهو أمر لم تعرفه التجربة الإسلامية.

ولذا، ظهرت في التجربة الغربية “مفاهيم مثل: (المجتمع المدني) كمقابل للمجتمع اللاهوتي أو الكنسي أو الديني؛ و(الثقافة المدنية) كمقابل للثقافة الدينية؛ و(التعليم المدني) كمقابل للتعليم الديني.. إلخ؛ بحيث أصبحت (المدنية) صفة تعاكس تمامًا صفة (الدينية)؛ سواء في القانون، أو الاجتماع، أو السياسية”([9]).

10- لا تكاد “تخلو أمة من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضارة؛ غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة؛ إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من قيامها”([10]).

ولعل هذا سر تميز الحضارة الإسلامية التي امتدت ظلالها لترفرف حتى على المخالفين الذين عاشوا في كنفها، فضلاً عن أنه قد أفاد منها مَن دخلوا معها في جولات من الصراع والتدافع؛ مثل أوروبا في حملاتها الصليبية التي امتدت نحو قرنين؛ حتى كان احتكاكهم بالشرق الإسلامي أحد عوامل نهضتهم الحديثة.


([1]) راجع: “الحضارة، الثقافة، المدنية.. دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم”، د. نصر عارف، ص: 56، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1994م، فرجينيا، أمريكا. ويذكر د. عارف أن ما أفاض به ابن منظور في “لسان العرب” عن مادة (حضر) وما يتفرع عنها؛ يدور على سبعة استخدامات؛ هي: 1- الحضور نقيض المغيب والغيبة، حضر يحضر حضورًا حضارة. وكلمه بمحضر فلان وبحضرته، أي: بمشهد منه. 2- بمعنى عنده: كنا بحضرة ماء، ورجل حاضر. 3- قُرب الشيء: الحضرة، وتقول: كنت بحضرة الدار. 4- جاء أو أتى: حضرت الصلاة، أو حضر القاضي. 5- الحضر بخلاف البدو. والحضارة: الإقامة في الحضر. 6- الحاضرة: الحي العظيم. 7- الحاضر: المسافر.

[2])) “الحضارة”، د. عارف، ص: 33، بتصرف.

[3])) المصدر نفسه، ص: 52، بتصرف.

[4])) “القيم الحضارية في رسالة الإسلام”، د.محمد فتحي عثمان، ص: 11، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط2، 1985م، جدّة.

[5])) نقلاً عن “مالك بن نبي.. عودة إلى الذات الفعالية والسننية”، رشيد أورَّاز، ص: 29، مركز الراية للتنمية الفكرية، ط1، 2006، دمشق. ولابن نبي تعريف آخر للحضارة، بأنها: “جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره”، المصدر نفسه، ص: 30.

[6])) قصة الحضارة، ج 1، ص: 3، ترجمة د. زكي نجيب محمود، المنظمة العربية للثقافة والعلوم، 1988م.

[7])) “مؤشرات حول الحضارة الإسلامية”، د.عماد الدين خليل، ص: 3، دار الصحوة، بدون تاريخ. و”الحضارة الإسلامية، إبداع الماضي وآفاق المستقبل”، د.عبد الحليم عويس، ص: 22، ط مكتبة الأسرة 2012م.

[8])) “الحضارة؛ دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها”، د. مؤنس، ص: 370، سلسلة عالم المعرفة، رقم 237، ط2، 1998م، الكويت.

[9])) “الحضارة، الثقافة، المدنية”، د. نصر محمد عارف، ص: 41.

[10])) “من روائع حضارتنا”، د. مصطفى السباعي، ص: 45، المكتب الإسلامي، ط3، 1982م، بيروت، لبنان.