لقد أظهر التاريخ أن ما نخشاه من التقدم على مستوى الأجهزة الرقمية لتكنولوجيا الاتصالات هو نفسه، ما خشيناه في العصور الماضية. ففي كل مرة أُشارك في حلقة تعليمية نقاشية، عاجلاً أم آجلاً، يبدو الجمهور بحالة رثاء ودائما ما يرددون ” للأسف نحن في عصر الإلهاء”.
القناعة التي وصلنا لها اليوم، هي أننا نحيا في عصر الإلهاء ، وهذه القناعة أصبحت حقيقة مترسخة وغير قابلة للتغيير. والنقاش حول القراءة والكتابة غالباً ما يؤدي بنا إلى إلقاء اللوم على أن التكنولوجيا الرقمية هي السبب الرئيسي في تقاعسنا عن القراءة.
ولا يمر يوم من دون أن تُنشر فيه دراسة تحذيرية حول الموضوع نفسه. و في سياق كتابتي لهذه الفقرة، تشتت تركيزي بتقرير نشر مؤخراً يخلص إلى أن الاعتماد على التكنولوجيا الرقميةيسبب “تآكل الذاكرة البشرية”.
ووفقا لدراسة شملت اختبار عادات الذاكرة لـ6000 شخص، فإن “المعلومات التي نحصل عليها من الإنترنت تمنع تكوين ذكريات طويلة الأجل”. وإذا كان يجب عليك تصديق جميع التقارير التي تشير إلى فقدان الذاكرة وانخفاض القدرة على التركيز، فهذا ليس ما ستصل اليه في نهاية هذا المقال.
مع بداية الصيف الماضي ، نشرت شركة مايكروسوفت تقريراً يشير إلى أن الاستخدام الكثيف للهواتف الذكية أدى إلى تراجع معدل قدرة تركيز الأشخاص من 12 ثانية في العام 2000 إلى 8 ثواني حالياً. وبكل جدية، ادّعى هذا التقرير بأن قدرة تركيز الأشخاص لمدة محددة أصبحت قليلة جداً حتى مقارنة بسمكة مائية التي يمكنها أن تحتفظ وتركز على فكرة واحدة لمدة أطول (وبحسب الدراسات، تتمكن السمكة من التركيز على فكرة واحدة لمدة 9 ثواني).
الأطفال الذين ينشؤون على التكنولوجيا الرقمية أكثر عرضة للأمراض المتعلقة بضعف التركيز من الأجيال السابقة
لم يتم التشكيك حينها بشكل كاف بالادعاءات التي تشير إلى آثار التشتيت التي يتركها الإعلام على أذهان الأطفال وقدرتهم على التركيز، كذلك لم يتم التشكيك بمدى تأثير الإعلام على عادات القراءة لديهم، وعلى قدرة البالغين – بمن فيهم كبار الكاتبين والمفكرين – وعن معاناتهم في التركيز على القراءة من دون تشتيت أفكارهم باجتذابات متعددة على الإنترنت.
ففي ظل عصر أصبحنا فيه مهووسين بالصحة، لم نعد نُفاجأ بأن مخاطر الإلهاء أصبحت مرتبطة بمصطلحات طبية، حيث تم تشخيص حالة تعرف بـ”الانتباه الجزئي المستمر” تتدعي أن ” الأطفال الذين ينشؤون على التكنولوجيا الرقمية أكثر عرضة للأمراض المتعلقة بضعف التركيز من الأجيال السابقة” . ومن المتوقع أن يدخل علم الأعصاب في محتوى هذه الدراسات.
ولم يقتصر بحث مخاطر الإلهاء على المجال الطبي فحسب، بل امتد ليشمل الأدب، في ظل انتشار الكُتب التي تهدف إلى رفع مستوى الوعي حول آثار عصر الإلهاء. ومعظم تلك الكتب تقوم بتجديد المفهوم القديم للتأمل، والبساطة، والتأملات الدينية لمواجهة سموم الإلهاء.
وإن كانت المبررات المتبناة من قبل أصحاب نظرية الإلهاء بالأجهزة الرقمية، تقوم على تجربة حية، فمن الصعب معرفة من يقوم فعلاً بقراءة هذه الكُتب، كذلك من الصعب الإجابة عن سؤال: كيف يقوم القراء بالانتهاء من القراءة في ظل الإلهاء الذين يتحدثون عنه ؟
والحقيقة هي أن مجتمع القرن الواحد والعشرين يخاف من فكرة الإلهاء ومن انخفاض قدرتنا على التركيز كما هو حال المجتمعات القديمة، فقد أظهر بحثي في تاريخ القراءة، أنه ومنذ ابتكار الكتابة، يسود قلق بين الناس من آثار الإلهاء المدمرة على الذاكرة والقدرة على التركيز. ولم تكن حينها المجتمعات القديمة تمتلك أي أدوات رقمية أو تواصل عالمي مثير للقلق حول التوجهات الخاطئة أو آثار الالهاء للقراءة والكتابة.
وقبل التقارير الحالية، وبآلاف السنين، قام سقراط بردّة فعل على انتشار الكتابة، مبرراً فرضيته بأنها تضعف ذاكرة القراء وتزيل حاسة التذكر.
وفي معظم السجلات التاريخية، تم إلقاء اللوم على القراءة في العديد من الأمراض المرتبطة بآثار الإلهاء. وتصاعدت المخاوف من آثار الإلهاء مع ابتكار الصحافة المطبوعة، ومع نمو حجم سوق المنشورات و توفر إنتاج كتب ذات تكلفة منخفضة .
وفي القرن الثامن عشر، تضاعفت مخاوف القدماء من الاضطرابات العاطفية التي تنتج عن القراءة بسبب الإحساس المتنامي بصعوبة نتائج التوجيه الخاطئ لمفهوم العصرية والتغيّر التكنولوجي، حتى جاءت حقبة المعلومات المفرطة وما جاء معها من انتقادات تمحورت حول فكرة مفادها أن قدرة الناس على التفكير والتعبير عن الأفكار أصبحت في خطر حقيقي.
وخلال القرن التاسع عشر، ارتبطت مشكلة الإلهاء بشكل متكرر بعادات القراءة المفرطة التي ترتبط بالقوة المغرية للروايات. وكان يعتقد أن من أهم الأثار الصحية السلبية للروايات هو النتيجة السامة التي تخلفها على تمرين حاسة الإدراك.
وفي ذلك القرن، أصبحت مشكلة عدم الانتباه محور تركيز الدراسات على المستويين الطبي والأخلاقي. وارتبط القلق الثقافي بشكل دائم بمواعظ عن قدرة المطبوعات على تقويض السلوك. وبروز الميول القوي لاستخلاص النتائج الأخلاقية القائمة على مفهوم الإلهاء الذي يهدد الاندماج الثقافي و صحة المجتمع.
ومع انتهاء القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أصبحت الصلة بين القراءة وانخفاض مدة التركيز أقوى وباتت قضية واحدة، وحل النص المكتوب وبالأخص في المنشورات المطبوعة مكان التكنولوجيا الرقمية كأحد أهم أسباب الإلهاء.
إن تحول مفهوم الإلهاء نحو حياة أكثر استقلالية، ساعد في إلهاء المجتمع عن مواجهة التحدي الأكبر ، وهو إيجاد معنى لإنجازاتنا
أما اليوم، فالمشكلة لم تعد في أن الكتاب يلهي الناس عن مسؤولياتهم بل أصبحنا مشغولين عن القراءة بحد ذاتها، وأصبح من النادر أن ترتبط القراءة بالإلهاء.
وبالفعل، فإن الناس يعانون من قلة التركيز المطلوبة للقراءة ودائماً ما يلقى اللوم على الإعلام الرقمي، حتى إن التفسيرات التي قدمها سقراط، سينيكا، والعديد من مفكري القرن التاسع عشر حول مخاطر الإلهاء الناتجة عن القراءة، تجددت وأعيد اكتشافها في القرن الواحد والعشرين من قبل علماء الأعصاب، ما يعني أن قضية الإلهاء اليوم غير مرتبطة بالتكنولوجيا الجديدة وإنما هي قضية تاريخية منذ الأزل.
تاريخياً، تم تصوير الإلهاء على أنه حصيلة ابتكارات وتغيرات غير مؤكدة. والسؤال الذي لم يطرح إلا نادراً من قبل مؤيدي نظرية الإلهاء هو: ما الذي يلهي الناس؟ لماذا يجب القول أن التكنولوجيا الحديثة هي سبب إلهاء الناس عن القراءة، بينما كانت القراءة لقرون مضت هي مصدر الإلهاء ؟
إلى الآن، ما أظهره التاريخ، هو أن تصور الإلهاء تزايد مع تراجع قدرة المجتمع في إعطاء معنى للحياة اليومية. وبالمقابل، إن تحول مفهوم الإلهاء نحو حياة أكثر استقلالية، ساعد في إلهاء المجتمع عن مواجهة التحدي الأكبر ، وهو إيجاد معنى لإنجازاتنا بحد ذاتها.
إن الحقبة التي نعيشها تصبح عصراً للإلهاء فقط، في حال تفادى المجتمع مسألة الاندماج بالمستقبل. إذا أردنا أن نناقش عصر الإلهاء، فلا بد أن نقوم بذلك على أساس انه أسطورة ثقافية وأن لا نسمح للمجتمع بتجاهل بعض الحقائق التي يعتبرها غير مريحة بالنسبة له.