ذكر العلماء عددا من الأصول العقائدية التي ارتكزت عليها الصابئة وميزت الصابئين عن غيرهم من ذوي الملل المختلفة وإيجاز ذلك في هذه الفقرات:
– الإقرار بالله تعالى: فالصابئة تؤمن بالله تعالى وبوجوده، وبقدرته وحكمته في تدبير الكائنات لكن يدعون أنهم عاجزون عن الوصول إليه إلا بوساطة الروحانيين[1]. وأن الكواكب والأجرام الفلكية هي هياكل هذه الروحانيات، ومنهم من يقصد بالروحانية الملائكة، إلا أنهم ينكرون أن تكون هذه الروحانية بشرية أو جسمانية، لذلك اشترطوا أن تكون قدسية.
– الإيمان بالأنبياء: إن الصابئة يرون أن دعوة الأنبياء حق لكن لا يتعين أن تكون طريقا للنجاة. ووظيفة الأنبياء عندهم تهذيب النفوس والأخلاق من الرذائل والأدران، وأن من استجاب للأنبياء فهو سعيد.
– التوسل بالروحانيات: يرون أن الروحانيات هي مبادئ الموجودات ومواد الأرواح والمبادئ أشرف ذاتا وأسبق وجودا وأعلى رتبة من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها، فعالمها عالم الكمال[2].
– تعظيم الأفلاك والكواكب – يرى الصابئة أن الله خلق الأفلاك وفوض إليها تدبير شؤون الكون فكانت أولى بالعبادة[3].
– شرائع أهل الملل: وقد أضاف ابن القيم لما سبق أن الصابئة يأخذون بمحاسن أهل الشرائع، ولا يوالون أهل ملة ويعادون أخرى ولا يتعصبون لملة على ملة، والملل عندهم نواميس لمصالح العالم، فلا معنى لمحاربة بعضها بعضا بل يؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النفوس وتتهذب به الأخلاق[4].
ومما تجب الإشارة إليه هنا أن الصابئة تنقسم تبعا لهذه الأصول إلى أصناف متعددة، منهم المشركون أدى اعتقادهم بالوساطة بين الله إلى صرف العبادة المطلقة عن الخالق وحصرها في المخلوقات، ومنهم من حافظ على الإيمان بالله قبل مجيء الأنبياء أو بقي على الفطرة مدة انقطاع الرسل، ويطلق بعض العلماء على هذا الصنف من الصابئة بالموحدين، لذلك لا يحسن تجريد الحكم العام عليهم دون تصور كامل لهذه الأصناف، أذكر أصناف الصابئة بإجمال:
الصنف الأول – الصابئة الأولى أو صابئة الحنفاء: ويطلق عليهم بعض الفقهاء بالموحدين، يلتزم هذا الصنف بما سبق ذكره من المعتقدات، لذلك يقول عنهم أبو حنيفة: إنهم ليسوا بعبدة أوثان إنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة، وقال ابن تيمية: إنما أثنى الله تعالى على هذا الصنف من الصابئة[5].
الصنف الثاني – الصابئة المشركون وهم أصناف كثيرة يجمعهم تخلفهم عن أصول المعتقدات السابقة، وتأليه الكواكب والروحانيات، وإنزالها معبودا دون الله تعالى، وانحرف بعضهم فأله بعضهم الأشخاص وأطلق عليهم صابئة الأشخاص[6]، ومن هؤلاء صابئة الأعاجم – الفرس، والروم والنبط[7]، وصابئة الهند[8]، وصابئة الفلاسفة[9].
الصنف الثالث – صابئة أهل الكتاب، ويطلق هذا اللقب على أتباع نبي الله عيسى بن مريم من اليهود، كما أنه يطلق الصابئة على “النصارى المندائيين” وتعد هي طائفة الصابئة الوحيدة الباقية إلى اليوم، ويمثلون أكبر وأهم الفرق الموجودة حاليا من الصابئة[10]، ثم يأتي بعدهم صابئة “حران” في شمالي العراق وسوريا[11].
هل الصابئة من أهل الكتاب ؟
يظهر لنا مما سبق أن الصابئة التي بقيت على وجه الأرض اليوم هم صابئة المندائيين ويقيم أتباعها بالعراق، كما توزع بعضهم بدعوى العمل والحرفة في أرجاء المعمورة، ولهم موقع إليكتروني خاص بهم[12]، وما يهمنا في هذه الفقرة فقه التعامل مع الصابئة المندائيين، هل يعدون من أهل الكتاب فيأخذون حكمهم أم لا ؟
اتفقت أقوال الفقهاء على الأقل في صابئة أهل الكتاب أنهم يلحقون بأهل الكتاب ويعاملون بمثل ما يعامل اليهود والنصارى، وإنما اختلافهم في تحديد أي أهل الكتاب ينتسبون، وصحح الشافعية في المذهب واختاره ابن قدامة أن الصابئة إن وافقوا اليهود أو النصارى في أصول دينهم من تصديق الرسل والإيمان بالكتب كانوا منهم، وإن خالفوهم في أصول دينهم كان حكمهم حكم عبدة الأوثان[13].
______________________________________________________________________________
[1] ابن القيم، أحكام أهل الذمة (238).
[2] المصدر السابق (240).
[3] جاء في كتاب تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية للشيخ مصطفى عبد الرازق (102): “مذهب الصابئة- على ما يحيط بتاريخه من غموض- يكاد يتم الاتفاق على أنه يقر بالألوهية، ويرى أنها تحتاج في معرفة الله ومعرفة أوامره وأحكامه إلى متوسط يكون روحانيا لا جسمانيا؛ ففزعا إلى هياكل الأرواح وهي الكواكب، فهم عبدة الكواكب”.
[4] المصدر السابق (241). ويقول الألوسي في كتابه بلوغ الأرب (2/252): يقول الألوسي: وأهل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون محاسن ديانات العالم ومذاهبهم ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا؛ فقد خرجوا عن تقييدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق.
[5] الرد على المنطقيين (289). وقال عنه الألوسي : صابئة الحنفاء شاركوا أهل الإسلام في الحنيفية، انظر: بلوغ الأرب (2/225). ويذكر الألوسي منهم هلال بن محسن الصابئ صاحب الديوان الإنشائي والرسائل، قال: كان يصوم مع المسلمين ويعبد معهم ويحرم المحرمات حتى يعجب الناس من موافقته لأهل الإيمان وهو ليس على الإسلام. انظر: بلوغ الأرب (2/225).
[6] وهم الصابئون الذين فزعوا إلى أشخاص، فقالوا: إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به إذا كان من الروحانيات، فإننا لا نستطيع رؤيته، ولا مخاطبته، وإذا أخذنا هياكلها وسائط، فإن الهياكل قد ترى في وقت، ولا ترى في آخر؛ لأن لها أفولا وطلوعا. فكان لا بد لنا من صور أشخاص موجودة قائمة منصوبة. انظر: تاريخ الفكر الديني الجاهلي (284).
[7] نزعوا إلى عبادة الهياكل التي هي السيارات السبع درسوا بيوتها ومنازلها ومطالعها ومغاربها واتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة، مترتبة على طبائعها، وتقسيم الأيام والليالي والساعات عليها، ونشأ لهم من ذلك علم الفلك ثم خلطوا معه الطلسمات المذكورة في كتب السحر. تاريخ الفكر الديني الجاهلي (284).
[8] ربط صابئة الهند عبادتهم بزحل لأن من شأن زحل البقاء والثبوت، وألهوا لهذا، ووضعوا يوم السبت لعبادتهم . انظر: تاريخ الفكر الديني الجاهلي (289)
[9] يأخذون بزعمهم محاسن ما دلت عليه العقول من ذلك إيمانهم بالأنبياء، لكنهم خالفوا أهل الإيمان حين رفضوا العبادة لله وتصديق ما جاء به الأنبياء. انظر: بلوغ الأرب (2/226).
[10] انظر: الصابئة المندائيون: نبيهم يحيى، لكاتبه طالب محفوظ، منشور على موقع عكاظ، 1434هـ/ 2013م، http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20130322/Con20130322582893.htm
[11] المصدر السابق.
[12] http://www.mandaeanunion.org/ar/
[13] المغني لابن قدامة (8/ 496 – 497)، وحاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المحلي (4 / 229).