برزت بعض قواعد علم الحديث في العصر الأموي من خلال تصرفات المحدثين العلمية والعملية، وأخذت الأصول الماضية تتطور وتنتقل إلى الارتقاء نظرا للأخطار المحدقة بالسنة النبوية، كالكذب والطعن وإثارة الشبه وغيرها، فاشتدت عناية المحدثين بالدفاع عن حياض السنة سيرا على وفق القواعد والوسائل التى أطلقت عليها فيما بعد باسم مصطلح الحديث، ومن هذه الوسائل:

1. الرحلة في طلب الحديث

إن الترحال إلى البلدان والتنقل بين الأمصار الإسلامية طلباً وبحثا عن مباشرة حملة السنة وتحقيقا عن طرق الحديث وأسانيده، وتحصيلا لعلو السند، وتعرفا على أحوال الرواة مع الصبر العريض في تحمل المشقة، فإن ذلك أصبح صورة ملموسة واقعيّة، وقاعدة متبعة في هذا العصر، وفنا من فنون علم الحديث في أجيال الرواية، وكانت الرحلة من العناصر الأساسيّة المعينة على حفظ الحديث وروايته.

2. تدوين السنة النبوية

تقدمت المحاولة الطيبة من عهد الخلفاء الراشدين في تقييد السنة حسب الحاجة الفردية تقتضيها حينها، والتى كانت من المفاتيح والسبل المسهلة لتدوين السنة النبوية بالصفة الرسمية في هذا العهد الأموي، ولم يخل إرتقاء تدوين السنة من مراعاة القواعد الأساسية المعينة على ذلك، إذ لم يأذن أمير المؤمنين عمر في التدوين إلا صحيح الأخبار فحسب، فقد احتاط أهل ذلك الزمان حيطة تامة في قبول صحة الخبر، ومن ذلك:  

3. رد المراسيل

لم يظل الصحابة رضي الله عنهم في عهد الخلفاء الراشدين يروي بعضهم عن بعض ما سمعوه من النبي عليه الصلاة والسلام، واقتضت طبيعة أحوالهم ألا يلتزموا بضرورة إبراز الإسناد إذ كلهم عدول، وربما لا يذكر بعضهم الواسطة فيما لم يسمعه بنفسه من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ما كان يختلج في بالهم هاجس تكذيب بعضهم بعضا، ولذا لما حدث أنس رضي الله عنه مرة بحديث فقال له رجل: أسمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم أو حدثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب ولا كنا ندري ما الكذب.[1]  
وكان أمر الناس على هذه الحال إلى أن تفاقمت الفتنة التى استشهد فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعندها تحزبت الأحزاب المنحرفة عن الجادة المعتادة، وبدأ الدَّسُ يتسرب إلى قداسة السنة النبوية إلا أن الغفلة لم تلهى أهل العلم الممحصون المتقنون قبل فوات الأوان، بل اشتد التثبت والتحري في النقل وصاروا لا يقبلون الأحاديث المراسيل حتى يعرفوا طريقها واطمأنوا إلى ثقة رواتها وعدالتهم كما في صراحة صنيع ابن عباس مع بشير التابعي الجليل الثقة، حيث لم يستمع ابن عباس إلى حديث بشير لعدم اتصال سند حديثه فقال له ابن عباس:”لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف”[2].

وهذا صريح في كون الحديث المرسل أصبح مردودا في هذا الطور لعدم معرفة حال المحذوف.

يقول أبو سعيد العلائي: فهذا ابن عباس رضي الله عنهما لم يقبل مراسيل بشير بن كعب، وهو من ثقات التابعين الجلة الذين لم يتكلم فيهم أحد واحتج به البخاري في صحيحه فكيف بغيره.؟[3]

     وتولد من رد المراسيل:

4. المطالبة بالإسناد المتصل

دلت على هذا الاتجاه الجديد عبارة الإمام ابن سيرين رحمه الله: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”[4]

وقوله: ” لم يكونوا يسألون عن الإسناد…” يعني عدم إلزام الناس بالإسناد قبل زمن الفتنة لطبيعة حال تلك الفترة من الصدق والدين، وأما بعد الفتنة وخاصة في العصر الأموي صارت المطالبة بإبراز الإسناد أمرا أكيدا شائعا ذائعا.

وهذا إسحق بن عبد الله بن أبي فروة رحمه الله- أحد الضعفاء المتروكين[5] – وعنده الزهري، فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأك على الله، لا تسند حديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة.”[6] يريد لا أسانيد لها، وهذا ذم لمن يرسل الحديث ولا يسنده[7]

عن ابن عون قال: ذكر أيوب لمحمد حديثاً عن أبي قلابة، قال فقال:” أبو قلابة إن شاء الله رجل صالح، ولكن عمن ذكره أبو قلابة ؟ “.[8]

ومن طريق أيوب عن ابن سيرين أنه كان إذا حدّثه الرجل الحديث ينكره؛ لم يقبل عليه ذاك الإقبال، ثم يقول: إنّي لا أتهمك ولا أتهم ذاك، ولكن لا أدري من بينكم.[9]

وهكذا تنبه المحدِّثون في هذا العصر لأهمية الإسناد؛ إِذ بطريق هيئة الكمال للإسناد تعرف صفة من يقبل حديثه ومن يرد، وهذا يفرض زيادة الكلام عن أحوال النقلة إيجابيا وسلبيا ويعنى ذلك أنه قد نتج من مطالبة الإسناد المتصل:

5. زيادة ظاهر الجرح والتعديل

لئن كانت بداية علم الجرح والتعديل من عهد النبوة مع استمرار مراعاته في عهد الخلفاء الراشدين، إلا أن الحاجة إليه في العصر الأموي أشد، ولذا اهتم النقاد بفحص أحوال حملة الآثار قبل اختبار الآثار، ومن هنا جاءت نصيحة الإمام المعاصر محمد بن سيرين رحمه الله في الحث على التيقظ وشدة الانتباء في حال الراوي حيث قال:” إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم”[10] وفي رواية: إن هذا الحديث دين فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه.[11] أي فلا تقبلوا الحديث إلا من الثقات الأثبات وأهل الديانة والعدالة والأمانة.

وفي كلام ابن عباس السابق “لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف” فكأنه رضي الله عنه أراد أن يقول:” إنه لما دخل فى هذا الأمر من هم ليسوا من أهله، صار الإعراض عن سماعهم، والنظر فيه أولى، فكان بذلك الإذن فى التحرج من قبول مطلق الأخبار مجردة من أسانيدها”[12]

وكان المحدثون من يومئذ يُعْنَوْنَ أشدّ الاعتناء في السؤال عن أحوال الرواة فيقولوا:” سموا لنا رجالكم” وكانوا يفتشون عن الأسانيد ” لكي يأخذوا حديث أهل السنة، ويدعوا حديث أهل البدع” فأهل السنة على الصفة المحمودة من العدالة والديانة الصحيحة والأمانة العلمية الموروثة مما يوجب الأخذ عنهم والاعتماد على روايتهم، وأما أهل البدع فإن الجرح أقرب إليهم؛ لأنهم أهل الأهواء والكذب، فيجب جد الحذر من مروياتهم صيانة للسنة النبوية وللدين الحنيف.

ومع ذلك لم تكن قضية رد الخبر حكرا على مطعون في دينه من أهل البدع وحده، بل هي مبنيّة على مراعاة الحفظ والضبط بصرف النظر عن كون الراو من أهل السنة أم لا، فلا يسوغ قبول حديث راو بدون اعتبار الدين والضبط معا حتى يعتبر ثقة.

وكان أبو الزناد رحمه الله يقول:” أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمونون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال : ليس من أهله.” [13]

 وكانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله ثم يأخذون عنه. وهذا أبو العالية رحمه الله يقول: كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام لأسمع منه، فأتفقد صلاته، فإن وجدته يحسنها، أقمت عليه، وإن أجده يضيعها، رحلت ولم أسمع منه، وقلت: هو لغير الصلاة أضيع.[14]

وفي رواية عنه:” كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه فننظر إذا صلى فإن أحسنها جلسنا إليه وقلنا هو لغيرها أحسن، وان أساءها قمنا عنه وقلنا هو لغيرها أسوأ .”[15]

ويقول أيضا: “كنا نسمع الحديث من الصحابة فلا نرض حتى نركب إليهم فنسمعه منهم”[16] أي ليس كل من يروي الحديث مرضيا عندهم ولذا كانوا يتجشمون الرحلة إلى مصدر الخبر للتثبت.

فالمقصود من هذا كله، أن توسع نطاق الجرح والتعديل – الذي كان محظورا في الأصل – إنما جاء على إثر الوضع العام الخطر في العصر الأموي فيكون من باب الحق يُقذف به على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وبالتقيد به ساعد على وضع الحد في تنقيح صحيح الحديث من المكذوب، ودفع كل من حاول الدس والطعن في السنة.

ومن هنا نجد ملحظ آخر من جانب الجرح والتعديل ألا وهو:

6. نشوء بعض ألفاظ الجرح والتعديل

للمحدثين دور فعّال في إثراء الحياة العلمية وفق أبجديات الدواعي، وفي هذا الطور الأموي قد أخذت بعض ألفاظ الجرح والتعديل في البروز والظهور من أثناء كلامهم في الرواة فأصبح لفظ “ثقة”[17] يطلق على راوي حديث صحيح.

وعن سعد بن إبراهيم رحمه الله قال:” لا يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات.”[18]

ولما قال يحيى بن سعيد للقاسم بن عبيد الله رحمهما الله: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن تسأل عن شىء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج – أو علم ولا مخرج – فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامى هدى ابن أبى بكر وعمر. فقال له القاسم: أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. فسكت فما أجابه.[19]

قال الشافعي رحمه الله: ” كان ابن سيرين وإبراهيم النخعي وطاوس وغير واحد من التابعين يذهبون إلى أن لا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي ويحفظ، وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب.”[20] وفي هذه الأمثلة دلالة واضحة على شهرة استخدام لفظ ثقة لراو مقبول حديثه.


[1] مسند البزار. ( 7288 ) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 3486)

[2] مقدمة صحيح مسلم 1/ 14

[3] جامع التحصيل في أحكام المراسيل، ص:57

[4] مقدمة صحيح مسلم 1/ 14

[5] وقال البخارى: تركوه. ينظر تهذيب الكمال. 2/450

[6] شرح علل الترمذي لابن رجب. 1/193

[7] المصدر السابق. 1/194

[8] المصدر السابق. 1/124

[9] شرح علل الترمذي لابن رجب. 1/124.

[10] المصدر السابق. 1/122

[11] المصدر الساق.

[12] كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها. ص:850 نقلا عن ضوابط الرواية عند المحدثين ص 65

[13] رواه مسلم في المقدمة – باب فى أن الإسناد من الدين. 1/11

[14] سير أعلام النبلاء. 4/209

[15] سنن الدارمي. 1/124.

[16] فتح الباري. 1/92

[17] يقول الإمام الذهبي:” الثقة في عرف أئمة النقد كانت تقع على العدل في نفسه، المتقن لما حمله، الضابط لما نقل، وله فهم ومعرفة بالفن فتوسع المتأخرون. ” سير أعلام النبلاء. 16/70

[18] رواه مسلم في المقدمة – باب فى أن الإسناد من الدين. 1/11

[19] رواه مسلم في المقدمة – باب الكشف عن معايب رواة الحديث ونقلة الأخبار وقول الأئمة فى ذلك.. 1/12

[20] التمهيد. 1/39