ليست إدارة العنف داخل المجتمعات بالأمر السلس واليسير، فهذه القضية دوَّخت العالم من أدناه إلى أقصاه، والتقدم الذي تحقق على صعيدها نسبي وغير مرضٍ في معظم الحالات، ولعلي أقف مع هذه المسألة الوقفات التالية:
1 – هناك تشوق إنساني عميق إلى ما يمكن أن نسميه (تحقيق الذات)، حيث يتطلع الإنسان إلى أن يؤكد لنفسه وللآخرين قدرته على القيادة والتأثير واستحقاقه للريادة والتسامي نحو المعالي. وهو في سبيل ذلك مستعد للتضحية والبذل كما أنه مستعد عند الحاجة لتجاوز كل المبادئ والقيم؛ بل ارتكاب الجرائم إذا اقتضت الضرورة ذلك!. الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية والاجتماعية تساعد المرء على تحقيق ذاته والكشف عن إمكاناته؛ فهذا يحقق ما يتطلع إليه عن طريق تأسيس رابطة، وذاك يحققه عن طريق رئاسة جمعية، وثالث يحققه عن طريق الانخراط في حركة لحماية البيئة وهكذا..، لكن بما أن كل جماعي يؤسس لسلطة جديدة، ويثير حساسية معينة لدى بعض الجهات؛ فإن هناك رغبة قوية في ابتعاد الناس عن كل الأنشطة الجماعية والحرة مهما كانت نبيلة الأهداف وعظيمة الفوائد والنتائج.
ومن هنا فإن انسداد الآفاق أمام الأنشطة المشار إليها أو تضييقها وانحسارها إلى حد كبير؛ دفع بالناس إلى أن يجعلوا تحقيق ذواتهم يتم عن طريق جمع الأموال والثروات واقتناص الوجاهة وإظهار السيطرة عن طريق التفنن في إنفاقها واستخدامها. وبما أن المعروض من (المال) هو دائماً أقل من المطلوب – حيث لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب- فإن منافسة ضارية قد اشتعلت في كل مكان من ديار المسلمين وعلى كل المستويات، وعلى مدار التاريخ كانت المنافسة متصلة بانحطاط المدنية وسوء الأخلاق، حيث يدفع الحرص على جمع المزيد من المال نحو الكذب والغش والخداع والرشوة والتضحية بالكرامة وارتهان الذات.. وقد صرتَ تلتقي بأشخاص كثيرين لا ترى فيهم أبداً ما يدل على أنهم يرجون الله والدار الآخرة، أو يقيمون أي اعتبار لمبادئ الإسلام وقيمه! وفقدت الحياة بذلك أجمل معانيها!. إن إطلاق الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية المختلفة والتحفيز عليها وتيسير سبلها، يخفف إلى حد كبير من الطلب على المال، ويخفف بالتالي من حدة التعانف الأهلي والتوتر الاجتماعي.
وأعتقد أن علينا أن نبتكر في إيجاد الأطر والأوعية والنظم التي تتيح للناس الشعور بتحقيق الذات وإشباع التطلعات على نحو لا يتصل بالمال أو أي اعتبار آخر.
2- لن يتحقق السلام في مجتمعاتنا ولا الأمن ولا الاستقرار ولا الشعور بالانتماء للوطن ما لم يسد العدل وتكافؤ الفرص ونفاذ القوانين على الناس دون استثناء ودون اعتبار خصوصية لأي كان.
والحقيقة أن الإسلام عانى طويلاً مع العرب ومع كل المجتمعات التي تقوم فيها الروابط على أساس العرف والنسب؛ وكان الهمُّ المسيطر خلال تاريخنا الطويل – على المستوى السياسي والقانوني- هو نقل المجتمعات الإسلامية من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، أي من مرحلة الولاءات والتكتلات وتبادل المنافع على أساس الولادة ومعطيات التاريخ إلى مرحلة الخضوع للأحكام الشرعية والقوانين والنظم السارية.
ويجب أن نعترف أنه لم تسجل اختراقات ذات شأن على هذا الصعيد. وعلى نحو عام فإن النجاحات كانت محدودة جداً وهذا الإخفاق في الانتقال من مرحلة الدولة كان السبب الجوهري وراء كثير من الفتن والثورات التي كانت تجتاح الأمة في العديد من فتراتها التاريخية. وهو نفسه السبب الكامن خلف سلبية الإنسان المسلم عامة والعربي خاصة تجاه المخاطر المحدقة التي تتعرض لها بعض الأوطان الإسلامية إلى درجة أن يقوم الناس ويحتجوا في الغرب ضد ممارسة حكوماتهم تجاهنا، ونحن سادرون غافلون ومنهمكون في همومنا الشخصية، وكأن الأمر لا يعنينا من قريب أو بعيد!!.
حين سرقت امرأة من بني مخزوم – فخذٌ من أنبل أفخاذ قريش- أهمّ ذلك قريشاً: كيف تُقطع يدُ مخزومية ؟! وقالوا: من يكلَّم رسول الله – ﷺ – إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله؟ فكلّمه أسامة في ذلك، فقال الرسول: ” أتشفع في حد من حدود الله ؟! ثم قام – عليه الصلاة والسلام – خطيباً في الناس ليعلن لهم مبدأ من أهم المبادئ التي تقوم عليها الأمم والحضارات العظيمة حيث قال: ” إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.
ربما نكون قد قدَّمنا نموذجاً واحداً ثابتاً وشاملاً في مسألة تكافؤ الفرص وإشاعة العدل والتعامل على أساس الكفاءة الشخصية وليس على أي أساس آخر؛ ذلك النموذج هو ما يتم في تشكيل المنتخبات الوطنية التي تمثل بلاد المسلمين في الألعاب الرياضية الدولية. هنا يتم تحري الأكفأ والأليق دون حساسيات ودون حسابات خاصة ودون اعتبار لمنافع جانبية؛ في الأعم الأغلب. وأنت تلاحظ ما يثيره هذا السلوك الجيد من حمية الناس وحماستهم وتعاطفهم حيث ينقلب الشخص غير المكترث بذهاب وطن إلى إنسان مشتعل حماساً إلى درجة لا تُصدَّق بسبب دخول كرة فريقه الوطني في شباك مرمى المنافس!، وإني لا أشك أن الناس سوف يتفاعلون ويبذلون ويهبّون تجاه كل المسائل الكبرى إذا شعروا أن الأمور تجري فيها على ما ينبغي، ووجدوا الإطار الذي يعبرون من خلاله عن ذلك؛ فالخير متأصل في النفوس والولاء لأمة الإسلام وللمجتمع الإسلامي ضارب أطنابه في أعماق شخصية المسلم.
الوطنية في جوهرها شعور بشرف الانتماء لبقعة من الأرض تحكمها نظم وقوانين واحدة، ويجمع الناس الذين يعيشون عليها الالتزام بمبادئ وقيم موحدة، والسعي إلى أهداف متقاربة ولا معنى للانتماء إلى أرض لا تتوفر فيها هذه المعاني. وقد قال أحدهم: لماذا أدافع عن وطن لم يؤمنّي من خوف، ولم يُطعمني من جوع، ولم يساعدني على ارتجاع حقي المغتصب؟!.
3 – يتطلب استتباب الأمن والشعور بالسلام والاستقرار إحساس الناس بأن لهم نوعاً من المشاركة في إدارة الشأن العام. أما في الأمور اللصيقة بهم؛ فلا يُتخذ قرار دون موافقة أغلبيتهم عليه. وإن قول ا لله – جل وعلا- (وأمرهم شورى بينهم) يوضح أن بعد الشورى ليس سياسياً فحسب؛ وإنما لها أبعاد أخرى: أخلاقية وتربوية واجتماعية.
على المستوى السياسي من المهم جداً أن يعرف الناس أنهم من خلال الشورى يستطيعون تحقيق ولايتهم على أنفسهم ، ويستطيعون أن يثقوا أنهم إذا ابتلوا بحكومة سيئة، فإنهم قادرون على التخلص منها من غير إراقة دماء أو تخريب للمرافق والممتلكات العامة؛ فالسلم الاجتماعي لا يأتي من خلال الدعوة إليه، وإنما من خلال فتح طرق للتغيير والتطوير والتحسين، تبتعد عن التآمر والقتل والتخريب. إننا أحياناً نمتنع عن استشارة الناس خوفاً من أن يأتوا بعناصر سيئة تسيء للدين والمصلحة العامة، وهذا الخوف مقدَّر ومعتبر وقد يحدث هذا فعلاً في بعض الأحيان ولاسيما في البدايات أو عند فساد التربية، لكن هذا لا يشكل القاعدة، فالولاء للدين وللصلاح والكفاءة قوي جداً في الأمة؛ وفي الإمكان وضع ضوابط تحد من مخاطر هذا الأمر. وعلى كل حال فلن نستطيع أبداً العثور على صيغة في إدارة العنف وتسيير الشأن العام، تخلو من السلبيات أو الأخطاء. ولا بد في سبيل أن تنال بعض الأشياء من أن تخسر أشياء أخرى. هذا هو حال الإنسان الذي يجد نفسه أبداً عاجزاً عن الصدور عن رؤى كلية وبناء تنظيمات وترتيبات كاملة.
إننا في حاجة ماسَّة حتى ننهض ونتخلص من أشكال العنف إلى أن نجعل الشورى تقليداً محترماً في بيوتنا ومدارسنا ودوائرنا ومؤسساتنا وكل مناشط حياتنا؛ فالقضايا الكبرى تظل قضايا خاسرة ما لم تتصد الأمة لحملها والمساهمة في إنجاحها. وكل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. لكن الأمة غير مستعدة للتضحية ما لم تشعر أنها تشارك في صنع القرار، وأنها ليست عبارة عن أدوات للتنفيذ فقط. وعلى علمائنا ومفكرينا وخبراء التشريع والقانون فينا أن يبدعوا في إيجاد صيغ تنظيمية تجعل الشورى أسلوب حياة، كما تجعل منها أداة للإصلاح والارتقاء في إطار الأصول والثوابت التي نؤمن بها.