يعد المفكر الكيني – العُماني الأصل – علي الأمين مزروعي من أكبر مفكري القارة الإفريقية المولود في 24 فبراير 1933 في ممباسا كنيا والمتوفى في 13 أكتوبر 2014.
يعتبر المزروعي قطب الجناح اليميني في الدراسات الأفريقية. وله مريدوه العديدون في كل الدول الإفريقية تقريبًا وفي أوروبا والولايات المتحدة التي درّس فيها آخر ثلاث عقود أستاذًا للإنسانيات ومديرًا لمركز دراسات الثقافة العالمية في جامعة بنكامتن في نيويورك.
لم تقتصر رؤية علي مزروعي على إفريقيا فقط، ولكن تعدى ذلك إلى النظر فيما يحدث في العالم كله من تطورات سريعة وجذرية.
حكى أن والده كان يعدّه لكي يكون شيخًا أزهريًا إذ كان ينوي إرساله إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، ولكن ظروفًا طارئة حالت دون ذلك.
رغم كل ما سلف فهو فخور بهويته الإفريقية والإسلامية في الوقت نفسه وله تحليلات عميقة لما يجرى في العالم الإسلامي.
كان علي مزروعي شديد الانتقاد للحدود العشوائية التي قسمت أفريقيا إلى دول، ولذلك كان كثيرًا ما يقول لو أنتم مصرين على تقسيم القارة إلى خمسين دولة، فلتقسموها بخطوط رأسية وأفقية فيسهل التعرف عليها، ولن تكون أكثر عشوائية من الحدود الحالية. ولم يكن مزروعي معجبًا بالزعامات التي نشأت في الدول الأفريقية بعد الاستعمار، بل أنه نادى في التسعينات بعد تزايد حالات الدول الفاشلة في أفريقيا بعودة الاستعمار بشكل أو بآخر لتلك الدول.
في مومباسا الكينية العام 1933 ولد مزروعي، وهي منطقة الساحل الشرقي لإفريقيا التي كانت أولى المناطق التي دخلها الإسلام، ويقال إنها أقدم مسجد بناه المسلمون في إفريقيا، ومنها انطلقت اللغة السواحيلية التي انتشرت في كل مناطق شرق إفريقيا وامتدت إلى وسط وجنوب القارة وهي تعد الآن من كبرى اللغات الإفريقية. وكانت حتى قدوم الاستعمار البريطاني تكتب بالحروف العربية ولكن بريطانيا أصرت على تغيير ذلك لكي تكتب بالحروف اللاتينية. وأكثر من نصف كلمات هذه اللغة عربي الأصل.
درس مزروعي في جامعة مانشستر في بريطانيا وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة أكسفورد وقام لمدة عشر سنوات بعد ذلك بالتدريس في جامعة ماكريري في أوغندا. هذه الجامعة أنشئت لكي تكون شبيهة بجامعتي أكسفورد وكمبريدج وكانت لمدة طويلة ذات مستوى عال جدًا ومتميز ودرس فيها كل قادة دول شرق إفريقيا فيما بعد.
جاب مزروعي العالم وألقى محاضرات في دول عديدة في القارات الخمس وخاصة في جامعات الولايات المتحدة التي أقام بها وكان يدير حينها معهد “دراسات الثقافة الدولية” في نيويورك.
قام بزيارات للعديد من الدول العربية وخصوصًا مصر حيث ألقى محاضرات في عدد من جامعاتها. وفي الولايات المتحدة لم ينس هويته الإسلامية فهو من أعضاء مجلس إدارة “المجلس الإسلامي الأمريكي” في واشنطن ورئيس مجلس إدارة مركز “دراسات الإسلام والديمقراطية”، وشارك في مركز التفاهم الإسلامي المسيحي في جامعة جورج تاون في واشنطن.
ألّف مزروعي أكثر من عشرين كتابًا أبرزها “نحو تحالف إفريقي” في العام 1967 وذلك في خضم الحرب الباردة وبزوغ أهمية العالم الثالث الذي اتجه جزء كبير منه نحو الاتجاهات الاشتراكية، وكذلك “المفاهيم السياسية للغة الإنجليزية” العام 1975 و”علاقات إفريقيا الدولية”.
وله مقالات عديدة في مجلات وجرائد عالمية من “النيويورك تايمز” إلى مجلة “التايم” إلى “الجارديان”… إلخ.
في العام 1986 أعدّ مزروعي للتليفزيون البريطاني سلسلة حلقات عن إفريقيا لاقت نجاحًا كبيرًا، كما شارك في إعداد الموسوعة الممتازة التي أصدرها اليونسكو تحت عنوان “تاريخ إفريقيا”. لم يمكث مزروعي في بلده كينيا إلا فترات قصيرة، إذ اختلف مع نظام الحكم فيه برئاسة الرئيس دانيال آراپ موي، حيث كان كثير الانتقاد لأسلوب حكمه، ولذلك فضل الإقامة في الخارج. على الرغم من أن حظر دخوله إلى كينيا لم يرفع إلا أخيرًا بعد انتهاء حكم “موي”.
أثناء إلقاؤه محاضرة انتبه مزروعي إلى ظاهرة العولمة وتأثيراتها على قارة مثل إفريقيا. فهو يرى أن إفريقيا في القرن الحادي والعشرين ستكون معقل آخر المواجهات بين قوى العولمة التي ستنتهي إما بالإيجاب أو السلب.
ويرى كذلك أن إفريقيا أصبحت مهمشة عن النسيج العالمي، ويستشهد على ذلك بوجود جامعات في الولايات المتحدة بها أجهزة كمبيوتر يفوق عددها كل الأجهزة التي توجد في دولة إفريقية بأكملها يزيد عدد سكانها على عشرين مليون نسمة.
يؤكد مزروعي أن كلمة العولمة في حد ذاتها مصطلح حديث ولو أن المفهوم يرجع إلى قرون عديدة بتفاعل أربع قوى رئيسية هي: الدين والتكنولوجيا والاقتصاد والإمبراطورية. ولذلك فإن عولمة المسيحية، على سبيل المثال، بدأت باعتناق الإمبراطور قسطنتين الأول في روما لهذه الديانة عام 313، ما جعل المسيحية هي الديانة السائدة، ليس فقط في أوروبا ولكن في كثير من المجتمعات التي حكمها الأوربيون. وعولمة الإسلام لم تبدأ بتحول إمبراطورية قائمة إلى الدين الإسلامي ولكن عن طريق بناء إمبراطورية مترامية الأطراف من لا شيء تقريبا. فالأمويون والعباسيون ربطوا أجزاء من إمبراطوريات شعوب أخرى مثل الإمبراطورية البيزنطية السابقة في مصر وإمبراطورية فارس وأمكنهم بذلك خلق حضارة جديدة تمامًا.
وتصارعت في بعض الأحيان قوى المسيحية والإسلام، وفي إفريقيا فإن الديانتين تتنافسان للحصول على أتباع جدد. وخارج نطاق الشمال الإفريقي وحوض وادي النيل، فإن المسيحية والإسلام قامتا منذ القرن التاسع عشر بدعم قواهما، فالمسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام أصبحت كلها قوى للعولمة الثقافية. كما أن الرحالة المستكشفين كانوا أيضًا من القوى التي ساهمت في العولمة مثل “سبيك” في أوغندا، وكريستوفر كولومبس في أمريكا.
أما الاقتصاد والإمبراطورية فقد كانا من أهم الدوافع التي حركت الإنسان في العصور الحديثة إذ أدى ذلك إلى خلق ظاهرة هجرة البشر، وأصبحت الولايات المتحدة على سبيل المثال تعبيرا أو مرآة لسكان العالم حيث تكونت كلها تقريبا من مهاجرين من شتى بقاع الأرض.
توقع مزروعي استمرار قوى العولمة في القرن الحادي والعشرين حيث يمكن التنبؤ بأن هذه الظاهرة ستعمل في نطاق ثلاثة أطر منفصلة هي: القوى التي تعمل على تغيير الأسواق العالمية وخلق نوع جديد من الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين أطراف العالم المتباعد بحيث تتأثر دولة مثل أوغندا بذلك من دون أن تكون مركزا لها. والثانية هي قوى مجتمع المعلومات التي تتيح توسيع قاعدة الحصول على ذلك عبر العالم وهو ما سيخلق هوة ضخمة بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة التي لا تدخل ذلك في أنظمتها. والثالثة هي تلك القوى التي تحيل كل العالم إلى ما يسمى “بالقرية الكونية” التي تجمع في إطار واحد المسافات والثقافات والحركة مع الإقلال من أهمية الحدود السياسية في الوقت نفسه.
دراسة ” المزروعيات”
في مسحٍ خاطف للتاريخ الأفريقي، بهذه العبارة اللافتة، والمنسوبة لإدوارد سعيد، يفتتح أحمد المعيني كتابه «براهمة العالم ومنبوذوه »، الصادر عن مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والتوزيع، ضمن سلسلة (كتاب نزوى)، وذلك في أضمومة هي عبارة عن ترجمة لنصوص مختارة من منجز المفكر علي الأمين المزروعي، حيث اكتشف العُمانيون إثر وفاته في الرابع عشر من أكتوبر 2014 مفكراً مؤثراً في المشهد العالمي كانوا يجهلونه، وهو الذي غيّر الصورة في العالم عن الأفارقة حسب تعبير كوفي عنان.
الكتاب مجرد محاولة أولية لتوفير كتابات المزروعي عربياً، وهو يقدم مثقفاً إنسانياً غزيراً ومتنوع الإنتاج، خلف وراءه إرثاً فكرياً اصطلح عليه أكاديمياً بالمزروعيات ( Mazruiana ). وهو إرث يشتمل على دراسات ورؤى في العلاقات الدولية والسياسة المقارنة والنظرية السياسية والفلسفة وعلم الاجتماع واللغويات الاجتماعية وغير ذلك، كما جاء في تقديم المعيني، حيث وصلت مداخل الببلوغرافيا المتعلقة به إلى 514 عنواناً.
من أجل تقديمه إلى القارئ العربي اختار المعيني مجموعة من المقالات تحقق ثلاثة أغراض، بحيث لا تكون معنية بإقليم معين، بل تبحث في الشأن العالمي، وأن تكون متسقة في ما بينها كموضوعات، وأن تعكس أسلوب المزروعي وتمثل خلاصة فكره النقدي، مع اعتراف حذر بأن (الكُتيّب) بتعبير المعيني، لا يغطي اهتمامات المزروعي، ولا يلم بمجمل نتاجه الفكري، وعليه، وقع اختياره على أربع مقالات في الشؤون العالمية، تطرح رؤى نقدية.
إحدى هذه الورقات على سبيل المثال قدمها المزروعي في ندوة الذكرى التسعين لجائزة نوبل في موضوع «النمط المتغير للصراع العالمي: من صدام بين شرق وغرب إلى صدام بين شمال وجنوب»، يتحدث عن تداعي التقسيمات الأيديولوجية غير الدينية، ويتساءل عن إمكانية انبعاث جيل جديد للولاءات الأولية، وظهور أشكال جديدة من إعادة القَبْلَنة (من القبيلة): قبلنة صغرى وقبلنة جامعة، حيث تخطو أوروبا الغريية نحو القبلنة الجامعة من حيث التكامل الإقليمي، مقابل قبلنات صغرى في شرق أوروبا، وعليه يتساءل عن إمكانية تشكُّل (الفصل العنصري العالمي) بعد تفكُّك الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ونهاية الحرب الباردة، إذ يمكن أن ينقسم العالم إلى عالمين، أبيض وأسود، يتميز الأول بالازدهار والتسلط على الثاني بكل بؤسه وتخلفه.
أفريقيا من منظور المزروعي هي الضحية على كل المستويات، فهي المنهوبة والمستعمرة والمنكوبة اقتصادياً والمهمشة في سياسات الأمم المتحدة، ولذلك من الطبيعي أن يكون السود هم أول ضحايا الجانب الاقتصادي من هذا الفصل العنصري العالمي، ليس في أفريقيا وحسب، بل في أوروبا والأمريكتين.
ما تم هنا هو مجرد انتقاءات بسيطة من عالم (علي الأمين المزروعي) الزاخر، وهو جهد يحرض على ترجمة إرثه للوقوف على آرائه الجريئة في “المزروعيات”.