الحياة عبارة طريق طويل وشاق، مليء بالعقبات والمحن والابتلاءات، وقليل من الدعاة من يجتاز هذا الطريق وهو ثابت على دعوته، ملتزم بمنهجه ، وهؤلاء هم الذين تقع عليهم مسئولية القيام بنيابة النبي في تبليغ الرسالة وتأدية الأمانة .
من أكبر مزايا هؤلاء الدعاة السعداء أن يسيرون في درب الحياة ، وهم واثقون من أنفسهم ، متوكلون على ربهم ، متأكدون من رحمته ، فلا يخافون إلا الله ، ولا يرجون إلا إياه ، ولا يبالون إلا برضاه..إذا عملوا عملا يرضي ربهم تغمرهم موجات من الفرح لا توصف ، وإذا بدرت منهم بادرة لا يرضاها هو ، يبدون وكأن الدنيا قد أظلمت في وجوههم.. واقع حياتهم يترجم ما قاله أبو فراس الحمداني:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالحَيَاة مَرِيرَة
وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الّذي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ
وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ
إذا صَحَّ منك الودّ فالكُلُّ هَيِّنٌ
وكُلُّ الذي فَوقَ التُّرابِ تُرابِ
هؤلاء وحدهم الذين يدركون معنى لا إله إلا الله ، وأن الله وحده النافع والضار ، وأنه لا مانع لما أعطى ، ولا معطى لما منع ، وأنه لا يصيبهم إلا ما كتب لهم ، وأن لا يتخطى أحد لما قدر له ..وكل لحظة من لحظات حياتهم وكل حركة و سكون من حركاتهم وسكناتهم تترجم هذه الحقيقة الكبرى إلى واقع حي بحيث من رآهم ، أة جلس إليهم أو عاشرهم انتقلت إليه هذه الشرارة الإيمانية الملتهبة واليقين عفويًا.
وهذا هو المقياس الأعظم لتقدير من هو أقرب إليهم اتصالاً بهم واقتداء بخطوهم ، واهتداء بهديهم..
دع عنك عوام الناس ورجل الشارع من المسلمين ؛ فقد تغيب هذه الحقيقة عنهم ، ولكنها للأسف تغيب عن كثير من الدعاة.. فتجدهم كأنهم يرون أن في الكون كثيرين بإيديهم النفع والضر ، وأنه لابد من إرضائهم بكل حيلة اتقاء من الضر وجلبًا للنفع ، وأن الحياة تعود عبئًا لا يطاق إذا سخط هؤلاء الكثيرون وأنهم يقدرون على منع بعض ما يريد الله أن يعطي ، ولا يملكون إعطاء بعض ما يريد الله أن يمنع.
إن هذا الصنف من الدعاة تلتوي عليهم طريق الحياة ، وتعود أكثر وعورة وخطرًا ؛ لأن اليقين المتزعزع في قلوبهم يوحي بالحيطة والحذر من كل شيء في الحياة والخوف من كل شبح ، والتحفظ على كل خطوة..فيسيرون في طريق الحياة متخاذلي الخطو ، مترددي الإرادة ، ويشتد خفقان قلوبهم كمن يطارده الغول الأسود ، وهو يجري ويكبو في كل مكان.. وعلى أمثالهم يغير “قاطع الطريق ” – الشيطان وجنده – أكثر من غيرهم ؛ لأن مورده العذب المساغ كل من يكون قليل البضاعة من اليقين والثقة بالله.
إن الداعية صاحب اليقين والثقة بالله وحده رجل دعوة شامخ يسير في طرق الحياة واثق الخطى ، قد خاف الله ، فلا يخاف أحدًا ، قد أحكم صلته به ، وقوى ثقته فيه فلا يرى حاجة إلى الاعتماد على رأي من خلقه!.
إن الداعية المتسامي بصلته القوية بالله الشامخ بثقته العجيبة في الله ، لا يسالم المصالح والأغراض ، ولا يهادن أحدًا في الحقوق والواجبات ، ولا يساوم أحدًا – مهما غالى في الثمن – على ما يمس العدل والإنصاف ، ولا ينازع أخاه على المنصب والجاه.
هذا الصنف من الدعاة هو المطلوب اليوم في ظلمات درب الحياه ، فقد عز وجوده وعفى أثره ، والتوى عنوانه.
في هذا العصر المادي كثر الدعاة إلى الله ، وكثر العلماء والصلحاء ، وكثر من يطلق عليهم ورثة الأنبياء ، ولكن قل من يكون على المواصفات سابقة الذكر وعلى نجوة من المرض الذي ذكرناه ، فقد نرى داعية جليلاً يفيض العلم من جوانبه ، وتجري الحكم على لسانه ، وتدوى المساجد والقاعات بمحاضراته ، ويؤخذ الناس بسحر بيانه ، وسمته وهديه ودله سمت العلماء الصالحين الأتقياء وهديهم ودلهم..ولكن أذا أردنا أن ندرس حقيقة سلوكه في الحياة ونقارن بين مظهره ومبخره ، سرعان ما ندرك الفارق بينهما عميق دقيق ، وأنه لا يؤمن – في الواقع العملي – بالله العظيم وقدرته وجبروته حق الإيمان ، ولا يثق فيه الثقة المطلوبة التي تغنيه عمن سواه ، وأنه وحده يعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء.
تلك هي الظاهرة العامة التي نلمسها اليوم في معظم رجال الدعوة ، والمربين والأساتذة والمدرسين ، وهم الذين تقتدي بهم الأمة في أمر دينها ودنياها ، وترى فيهم نموذج الإسلام الحي الواقعي الذي يمشي على رجليه ويدفع براحتيه ، فمن الطبيعي أن يتدرج منهم هذا الضعف في اليقين والمفارقة بين ما يظهر وبين ما يتتر ، وهذه الثقة في غير الله والظن بأنه ينفع أو يضر في أي جانب من جوانب الحياة..يتدرج منهم لكي يسري في جسم الأمة ، وينخر كيانها الإيماني ويهدم معنوياتها الأصلية.
في هذا العصر المائج بالفتن المادية..ما أشد حاجة الأمة إلى رجل يحمل هذا اليقين ، وهذه الثقة بالله وهذا الغنى عمن سواه.