في الغالب لا يتم الحديث عن الصوم دون التعريج على علاقته بصحة الإنسان، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن الإنسان عندما ينقطع عن الأكل والشرب يشعر بأن جسمه قد تحدث فيه اضطرابات تؤثر على صحته في الحاضر أو في المستقبل، ولكن بمجرد تذكّر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحثّ على الصيام لا بد أن يصبح المسلم متيقناً بأن الصوم كله خير وصحة وبركة وعافية: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ومع هذا اليقين التام بخيرية وصحة الصيام، ستظل هناك حاجة متجدّدة إلى تقديم نماذج علمية تكشف عن طبيعة العلاقة الإيجابية بين الصوم وصحة الإنسان والحيوان أيضاً، وهذا ما سنحاول أن نسهم في تسليط الضوء عليه من خلال جولة في كتاب “الصوم والصحة” الذي يحدثنا فيه الطبيب الأديب نجيب الكيلاني عن العلاقة بين الصوم وصحة الإنسان، معتمداً على دراسات “قام بها نخبة من العلماء والأطباء الذين تجردوا للحقيقة، واتخذوا منهج العلم الحديث أسلوباً لبلوغ النتائج[1].
الصوم ضرورة وفطرة
من المعلوم لدى المسلمين أن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام وعبادة يجب القيام بها على أحسن وجه من أجل الحصول على الجزاء الأخروي، ولكن هذا الجانب الشرعي الذي هو الأساس والدافع الأول لا ينبغي أن يمنعنا من أن نبحث عن فوائد أخرى للصوم ترغّب الناس فيه، خاصة أن هناك فوائد عديدة للصيام “تنعكس آثارها في أجسادنا ونفوسنا، وتلك منافع نلمسها في الدنيا، وندرك أبعادها وأهدافها بالمقاييس العلمية المتاحة لنا في أيامنا هذه”[2].
إن الكشف عن فوائد الصوم الجسدية والنفسية المتعدّدة لا شك أنه سيسهم في إقبال الناس على هذه العبادة الجليلة في رمضان وفي غيره طلباً للأجر الأخروي والصحة البدنية والعقلية في آنٍ واحد، وسيجعل البشرية تتأكد من حقيقة مهمة مفادها أن “الصوم ليس تعذيباً أو حرماناً مقصوداً بذاته، ولكنه صحة وتربية وطاعة، وتدريب على الالتزام”[3].
ولا جدال في أن الأمر الثابت تاريخياً وعلمياً ودينياً أن الصوم ضرورة من ضرورات الحياة وظاهرة بشرية قديمة، والقرآن الكريم نفسه يحدثنا عن هذه الحقيقة التاريخية، ويقول لنا إن الصوم فرض علينا وعلى الأمم التي سبقتنا إلى الوجود، من أجل تحقيق هدف نبيل جداً ألا وهو الارتقاء إلى مرحلة التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وإذا نظرنا في صفحات التاريخ سنجد أن بعض الأمم كانت تصوم أحياناً لأهداف محددة، فالرومانيون -مثلاً- كانوا يلجؤون إلى الصوم طلباً للنصر على أعدائهم، أما اليهود فكانوا يهتمون أكثر بالصوم عندما يتعرضون لخطر من الأخطار أو وباء من الأوبئة الفتّاكة، ثم إننا إذا أعدنا النظر في التاريخ سنجد أن الصوم لم يكن خاصاً بالإنسان، بل كان ضرورة من الضرورات لدى الحيوانات أيضاً، حيث إن “بعض الحيوانات تصوم حفاظاً على نفسها وجنسها، واستجابة فطرية لظروفها وتكوينها”[4].
التكيّف مع قلة الطعام
ما دمنا قلنا في السطور السابقة إن الصوم ضرورة من ضروراته الإنسان والحيوان، فقد يكون من المهم أن نذكّر بأن هناك وظيفة ضرورية لبقاء الأجناس البشرية تتمثل في تكيّف الإنسان مع قلة الطعام والشراب، ومن العلماء الذين كشفوا عن أهمية هذه الوظيفة العالم الفرنسي الشهير الحاصل على جائزة نوبل في الطب “ألكسيس كاريل“، الذي يقول في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): “إن كثرة الطعام وانتظامه ووفرته تعطّل وظيفة أدت دوراً عظيماً في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيّف مع قلة الطعام، ولذلك كان الناس يلتزمون الصوم في بعض الأوقات”.
وإذا أردنا أن نضيف دليلاً آخر على أهمية الصيام وضرورة تكيّف الإنسان مع قلة الطعام، فيمكن أن نذكّر بما جاء في دائرة المعارف البريطانية، حيث تؤكد أن “أكثر الأديان، دانيها وعاليها، قد فرضت الصيام وأوجبته، فهو يلازم النفوس حتى في غير أوقات الشعائر الدينية، يقوم به بعض الأفراد استجابة للطبيعة البشرية في بعض مظاهرها”.
وفي هذا السياق، قد يطرح البعض السؤال التالي: ماذا يحدث طبياً عندما يمتنع الإنسان عن الطعام والشراب أثناء الصوم؟ وقد أجاب نجيب الكيلاني على هذا السؤال حين قال إن الإنسان عندما يمتنع عن الطعام والشراب أثناء الصوم تحدث أمور عديدة داخل جسمه لكننا لا نراها، منها أن المعدة تخلو من الطعام فتنخفض نسبة السكر في الدم، وتتحرك الكمية المخزونة في الكبد من السكر للطوارئ وتذهب إلى الدم والأنسجة للاستفادة منه أثناء الصوم، وهذه الكمية المخزونة في الكبد عندما تزيد قد تكون لها آثار وخيمة على الإنسان.
ثم إن من الأمور التي تحْدث أثناء الصوم أن الدهن المخزون تحت الجلد أو في الأماكن الأخرى يتحرك، وهذه وسيلة سهلة للتخلص من هذا العبء الزائد من الدهون، كما تتحرك بعض مواد العضلات والغدد وبعض البروتينات، وهكذا فإن الصوم ينظف ويبدل أنسجتنا، لكن الذي يتم استهلاكه هو الأنسجة الزائدة أو الأنسجة الغير رئيسية، فالعضلات تفقد (40 %)، والطحال يفقد (67 %)، والكبد يفقد (54 %)، أما القلب فيفقد (3 %) فقط[5].
الصوم وطرد السموم
في بعض الأحيان يصاب الإنسان بوعكة صحية، فيلجأ إلى الأدوية أو العقاقير المختلفة من أجل تخفيف الآلام والأرق والتوتر، وأحياناً يتم ذلك دون استشارة طبيب فتزداد المخاطر، ومهما كان الأمر فإن معظم الأدوية الحديثة لها آثار جانبية على الإنسان تُخلّف في الجسم الكثير من السموم والمركبات الضارة، وفي هذا السياق قد تخطر على الذهن بعض الأسئلة الملحّة، مثل: ما العلاقة بين الصوم والأدوية التي نتعاطاها وكيف يمكن أن نطرد سمومها من أجسامنا؟.
وللإجابة على هذا السؤال، يمكن القول إن هناك دراسات علمية حول فوائد الصيام الصحية أثبتت أن الصوم يأتي في قائمة الوسائل الطاردة للسموم والمركبات الضارة، يقول الدكتور ماك فادون أحد الأبطاء العالميين الذين اهتموا بالصيام وأثره: “إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم وإن لم يكن مريضاً، لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله فيقلّ نشاطه، فإذا صام الإنسان خفّ وزنه، وتحللت هذه السموم في جسمه بعد أن كانت مجتمعة.
وهذا الأمر يدفعنا إلى القول إن الحقائق العملية المتعلقة بفوائد الصوم المتعددة تكشف لنا عن عظمة الخطاب القرآني وشموليته: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، كما أنها تُثبت لنا أن المسلمين بحاجة دائمة للعودة إلى النصوص القرآنية والحديثية من أجل التعمّق في معانيها الجليلة التي تصلح لكل زمان ومكان، وقد كان الدكتور عبد العزيز إسماعيل صادقاً حين قال “إن كثيراً من الأوامر الدينية لم تظهر حكمتها، وستظهر مع تقدم العلوم، فلقد ظهر أن الصوم يُفيد في حالات كثيرة، وهو العلاج الوحيد في أحيان أخرى”.
الصوم كعلاج للأمراض
لا يمكن أن ننكر أن هناك مجموعة من الأمراض التي تتعارض مع الصيام، ولكن في الوقت نفسه فإن الصيام يساهم في علاج كثير من الأمراض التي تهدد البشرية في كل أنحاء العالم، ولعل من أبرزها الأمراض الجلدية التي لها صلة وثيقة بالصيام، وقد ذهب نجيب الكيلاني إلى أنها تحتاج “نظرة واعية”، أما أستاذ الأمراض الجلدية الدكتور محمد الظاهري فقال “إن علاقة التغذية بالأمراض الجلدية علاقة متينة، فالامتناع عن الطعام والشراب مدة ما يقلّل من الماء والجسم والدم، وهذا بدوره يدعو إلى قلته في الجلد، وحينئذ تزداد مقاومة الجلد للأمراض الجلدية المؤذية والميكروبية”.
ثم إن مرض القلب من الأمراض التي يساهم الصوم في علاجها، وقد كشف عن هذه الحقيقة الدكتور محمد أبو الشوك استشاري الباطنية من خلال دراسة نشرت في مجلة العربي، حيث لاحظ أن ضغط الدم المرتفع في كثير من الحالات ينخفض أثناء فترة الصوم بالنسبة للمرضى الصائمين، أما نجيب الكيلاني فقال إن النبض الطبيعي للقلب يتراوح عادة بين 70-80 نبضة مثلاً، أما أثناء الصوم فيقل الدم الذاهب إلى المعدة، وينخفض النبض أحياناً إلى حوالي 60 نبضة تقريباً[6].
ولا يمكن أن ننسى أن الصيام يساهم في علاج الأمراض النفسية، فيطرد التوتر والقلق والخوف والاكتئاب، وسبب ذلك أن الصائم يعيش في أجواء ربانية مريحة مليئة بالإيمان والثقة بالله والابتعاد عن شهوة البطن والفرج، لذا لا بد أن “تمتلئ نفسه باليقين والرضا، وتدريجياً تذهب عنه الوساوس وتزايله الأوهام، وتنمحي المخاوف والهواجس، ويجد دائماً الله إلى جواره فيركن إليه، ويزداد تشبثاً به[7].
بقيّ أن نقول إن الصيام يساعد في الانتصار على النفس الأمَّارة بالسوء في ميادين عديدة، حيث يتيح للمدخن فرصة الإقلاع عن التدخين الذي يسبب السرطان، كما يتيح فرصة للإقلاع عن شرب الخمر المحرّم شرعاً المضرّ صحياً، والذي عرّفه القرآن الكريم بأنه {رِجْسٌ} ووصفه جاك ماهون مدير اللجنة الدولية لمكافحة المسكرات بأنه “الخطر الذي يهدد العالم بأفدح الكوارث”.
[1] نجيب الكيلاني، الصوم والصحة، 5.
[2] المصدر نفسه، 7.
[3] المصدر نفسه، 8
[4] المصدر نفسه، 11.
[5] المصدر نفسه، 12-13.
[6] انظر، المصدر نفسه، 13.
[7] المصدر نفسه، 52.