ربما يحدث أن تجد واحداً من الكتّاب، فيدهشك منه: غزارةُ النتاج، وجمال الصياغة، وسعة الاطلاع، ورصانة الأفكار، وقائمة طويلة مما يجعله أهلاً لأن يُذكر ويُعرف، ويُقرأ ويُناقَش، ويُحتفى به في مجامع الفكر ومنتديات الثقافة، لكن الواقع لا يقول هذا ولا قريباً منه. فهذا الكاتب المُجيد المكثر الآتي بما لم يأت به الأوائل، لا يكاد يعرفه أحد، يقضى الأمر حين يغيب، ولا يُستشهد وهو شاهد!

وذلك لأن في البشر شيئاً غير منطقي، أو لأن لهم منطقاً ما، يجعل كل مؤهلات الجودة والنوعية والكمية غير مؤثرة إيجاباً لصالح الكاتب، وغير كافيةٍ له لينال بعض ما يستحقه من إقبال الناس عليه واستمتاعهم -أو انتفاعهم- بما تخطه يمناه.

إن هناك “معطيات” نفسيةً واجتماعيةً معينة تجعل الكاتب حظياً بالإقبال وتخلق له بيئة داعمةً ومشبعةً، أو تحرمه من كل ذلك أو بعضه.. وقد يكون من المفيد أن نستعرض بعض الشواهد على هذا الافتراض:

فالأديب الكبير علي أحمد باكثير، الحضرمي الأرومة، الإندونيسي المولد والنشأة، والمصري الجنسية والمعيشة لسنوات طوال، كان يشعر بأنه مستبعدٌ دائماً من تلك الحلقات المصغرة للأدباء في مصر، لأسبابٍ مختلفة، يَذكُر منها أصوله غير المصرية في مجتمع يبدو أنه كان يأخذ الأمر بعين الاعتبار، وتوجهه الإسلامي في عصرٍ كانت الغلبة والدولة فيه للاشتراكية، ووظيفته التي لا تدر دخلاً كثيراً، وشخصيته الخجلى التي لا تصبر على لأواء مخالطة أصحاب الأقلام ومغالبتهم على موارد التصدر والنشر.

عن الكتابة والحظ
الأديب علي باكثير

وكان الحظّ واحداً من العوامل التي لم ينل منها باكثير حظا كثيراً إذا قورن باثنين من رفاقه وأترابه من الأدباء، هما: عبدالحميد جودة السحار، ونجيب محفوظ، ارتفع بهما حظهما فعاشا حياةً فيها من أسباب الرفاه ومن مظاهر الاعتبار الأدبي والاجتماعي ما لم يكن في حياة باكثير منه إلا القليل.

ويذكر وديع فلسطين في كتابه الماتع عن أعلام عصره أن الأديب غير المحظوظ كامل السوافيري كان يحدثه عن عضوية الهيئات والمجامع العلمية والأدبية التي لم ينل منها ولا واحدةً على سعة اطلاعه ورشاقة قلمه، وعن الجوائز الأدبية التي لم يشم رائحتها؛ فأجابه وديع بأن لتلك الهيئات مقاييس خاصة، وبلغ به الشعور بجحود المجتمع الثقافي له أن تساءَل: هل سيُؤبّن ويذكر بالخير إن هو غادر هذه الدنيا؟ أم سيُطوى ذكره ولا يعبأ العالم برحيله كما لم يعبأ به في حياته؟!

علينا أن نسلّم بأن هناك أناساً نالوا من الاعتبار الأدبي أكثر بكثير مما يستحقون، وأن هناك أناساً آخرين لم ينالوا معشار ما يستحقون من الاعتبار والتقدير، ولم تثمر بذورهم التي بذرتها أقلامهم وعقولهم إلا على خجل..  وعلينا أن نسلّم بأن الأمر رزقٌ مقسومٌ، من كان له فيه نصيبٌ ناله ولو لم يبذل الكثير من الجهد في طلبه، ومن لم يكن له فيه نصيبٌ عاد بخفي حنين من وراء سعيه وبذله..

بل قد ينال الواحد من هؤلاء الكتّاب تقدير مشاهير عصره وتعظيمهم لموهبته، ولا ينعكس ذلك على ظهور اسمه ولا تنبيه الناس إلى ما يمتلك من موهبة، وإلى ما في نتاجه من جمال وجلال، ولقد كان طه حسين يكتب الروايات، وكانت بعض الروايات تحوّل إلى أفلام، وكان طه حسين يستعين دائماً بواحد من الكتاب الأفذاذ لكي يقوم بتحويل الرواية إلى”سيناريو” لواحد من الأفلام، ذلك الكاتب هو: يوسف جوهر، الذي لم ينل من الاعتبار الأدبي والإقبال الجماهيري شيئاً البتة، على الرغم من نتاجه الأدبي الرائق الضخم، وقربه من كبار كتّاب عصره، ونيله جائزة الدولة التقديرية، وسبقه وريادته في الكتابة الروائية والقصصية على مستوى العالم العربي!

ولكن علينا أن نعترف بأن جودة النتاج ليست وحدها ما يضمن للكاتب أن يبلغ المبالغ العالية من الاعتبار الأدبي؛ فثمة الكثير مما يمكن أن يؤثر تأثيراً بالغاً في خاتمة المطاف.

ومن أهم تلك المؤثرات: مدى قدرة الكاتب على خوض اللعبة الاجتماعية على نحوٍ ناجح. إذ كل كاتب يخوض اللعبة الاجتماعية مزوداً ببطاقات للعب، ومهارات تحدد كم يستطيع أن يتصرف بتلك البطاقات التي في يديه، على ذات النسق الذي يحصل به التفوق في لعب الورق!

ويتفاوت الكتّاب في “بطاقات اللعب” التي يمتلكونها: فهناك الغني والفقير، والوجيه والمغمور، والمحظي بالسكن في حاضرة كبرى والمبتلى بالسكنى في مدينة صغيرة ليس فيها شيء من الرافعات التي تصعد بالكاتب ولو لم يصعد به قلمه، وهناك من يدرك زماناً يرتفع فيه سقف الحرية وتنال بعض المنابر الأدبية فيه شهرة وصيتاً واعتباراً استثنائياً، ويتاح فيه لحاملي الأقلام أن يرتقوا في مدارج الاعتبار الأدبي، كما أن هناك من يكون حظه في حقبة يغلب فيها على بلاده الطابع البوليسي الذي تنسد معه منافذ النشر ويختنق في فضائه الضيق كل قلم حر.

كما يتفاوت الكتّاب في مهاراتهم الاجتماعية التي تمنح الواحد منهم القدرة على إبراز نفسه وموهبته، والقدرة على ستر ثغراته وعيوبه، والقدرة على الوصول إلى مفاتيح البروز الثقافي: كالفعاليات الثقافية من أمسيات ومسابقات ومؤتمرات، والعلاقات الشخصية مع أصحاب القرار في هيئات الثقافة ومنافذ الإعلام ودور النشر ونحو ذلك.

خلاصة القول: أن المهارة وحدها لا تكفي! وأن الكتابة مقامرة، وأن للظروف والملابسات الاجتماعية والسياسية أثراً بالغاً في صعود الكتّاب، قد يقارب أثر براعتهم وكفايتهم، أو يتفوق عليه!