كنت أقرأ في شعر إلياس فرحات، حين وقعت عيناي على قوله:”إني وإن كنت القصيّ فإن لي**عيناً ترى ما لا يراه الداني!” توقفت طويلاً عند هذا البيت، وتذكرت قول العرب: “زيادة القرب حجابٌ”، وانثالت على الذاكرة أقوالٌ بعضها قديم وبعضها جديد، بعضها منظوم وبعضها منثور، وبعضها فصيح وبعضها عاميٌّ، تتناول كلها هذا العامل الواحد الذي يعمل في مشاعر الناس ويصنع في حيواتهم الكثير والكثير! ذلك هو: “المسافة”!
القرب والبعد: من حيث الزمان، أو المكان، أو المشاعر، أو الأفكار، عواملُ مؤثرةٌ جداً في حياة كل إنسانٍ، ولأن الكتّاب من جملة البشر ولله الحمد فإن موضوع “الكتابة والمسافة” يستحق شيئاً من التأمل، وأظن أنه سيكون مفيداً.
تكاد المسافةُ أن تكون رمّانة الميزان لحملة القراطيس والأقلام! إذ المسافة تقرر إلى حد بعيدٍ.. طبيعة النص المكتوب، وجودته، وحظه من الذاتية أو الموضوعية، والصدق أو الوهم، والعاطفة الحارة أو العقل الرزين، والشباب النزق أو الكهولة الوقور!
ينفعل الإنسانُ حين تتطاول المسافات الزمانية أو المكانية بينه وبين وطنه وأحبابه.. فتفور عاطفته، وينشأ في داخله من الشجون ما لا يعبر عنه أحسن التعبير إلا صاحب قلم، شاعراً كان أو ناثراً.
ولو ألغينا من الشعر ما تبعث المسافة على نظمه لمحونا نصف الشعر أو أكثره! فالمديح محاولة لتقريب المسافة بين المادح والممدوح، والهجاء وسيلة مواصلات للتبعيد بين الهاجي والمهجو، والغزل يتناول ما يجري بين الحبيبين إذ تمحى المسافات بينهما فيغدو القلبان قلباً، والرثاء لوعةٌ على مسافةٍ مستحيلة العبور بزغت فجأة فحالت بين الشاعر وبين فقيده الذي أضحى مزاره “بعيداً قربٍ، قريباً على بعد”.
يقترب الشاعر من بلاده فيحدوه الشوق إلى الثناء والمديح، ويبتعد عنها فتنزع الروح إليها فينطلق لسانه ويخطّ قلمه، ويطول مقامه بها فيدركه بعض الملل فينطلق لسانه يعدد منافع السفر.. وهكذا نجد المسافةَ عاملاً حاسماً في الشعر، ولا ريب أن المسافة عامل حاسم في النثر كذلك.
وفي هذه المساحة المحدودة، لن يتسع المجال للاستفاضة في تعداد الأمثلة على كل صور وضروب “المسافة” التي أحسب أنها لو جرى تناولها بالتوسع الذي تستحقه لتكونت منها نظريةٌ كاملة! لكن من الظريف أن أضرب مثالاً بهذه المقالة التي تطالعون حروفها الآن على تأثير المسافة الحاسم في اختمار الأفكار:
هذه المقالة فكرةٌ طرأتْ، فكُتبت بنية النشر، في مقالةٍ لا تتجاوز ألف كلمةٍ إن طالت، ولأن هناك أمداً زمنياً محدوداً لتسليم النص؛ فإن الفكرة ستُكتب، والنص سيولد، وينصرف الدماغ إلى التفكير في موضوع مختلف للمقالة الآتية.
ذلك لأن دورة حياة “الفكرة” اكتملت بما جرى من كتابتها على نحوٍ سريعٍ، فحُرمت بذرتها من النمو في بطن التربة، هناك في العمق، حيث تتمدد جذور الفكرة، وتختمر، حتى تولد طفلاً سوياً مكتنزاً!
هذا لون من تأثير “المسافة” في الكتابة: تأثير المسافة بين طروء الفكرة في ذهن الكاتب، وبين نشرها لتصل إلى القارئ! فالعجلةُ في الكتابةِ مثل العجلة في القراءة، ومثل العجلة في تناول الطعام! والجامع بين الثلاثة هو “المسافة” الزمنية اللازمة للاختمار، أو الاكتمال، أو التمثل.
ولننظر إلى أثرٍ آخر من اثار “المسافة” الزمانية على النص، فإن الكاتب إذا عاد إلى نصه بعد زمنٍ سينظر إليه نظرة مختلفةً، ومن أجمل ما يعبر عن هذه الفكرةِ قول القاضي الفاضل -وزير صلاح الدين الأيوبي وكاتبُه-: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا لعمري من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر».
وهذه العبارةُ الجميلةُ على صدقها الشديد لا تنطبق على كل مكتوب ولا كل كل كاتب، ولا في كل الأحيان: فقديحدث أن يبلغ الكاتب أثناء كتابة نص ما ذروة أدائه الأدبي ويحلق في أفق عالٍ جداً قد يعجز عن بلوغه في بقية حياته الكتابية، وقد يكون السر وراء ذلك الارتفاع الاستثنائي تجربة روحية أو نفسية أو حالةٌ انفعالية لا تتكرر كثيراً. ويدرك الكاتب هذا حين يعود إلى نصه بعد قطعه ما يكفي من المسافة زماناً أو شعوراً عن اللحظة التي جلس فيها ليكتب نصه ذاك.
كما أن الكاتب الشيخَ حين يعود إلى ما كان يكتبه أيام الشبابِ سيجد في المكتوب قدراً غير قليل من الاختلاف بين نسختين من شخصه: نسخة قديمة.. فيها من اندفاع الشباب وانطلاقته وسذاجته، ونسخة جديدة.. فيها من تعقل الشيخوخة وأناتها وحذرها.
واليومياتُ، التي يكتبها من وفقه الله إلى ذلك؛ توثّق للإنسان لقطات من نفسه يجد متعةً حين يعود إليها ويطالعها، وتقرب إليه -على نحو ما- أحداثاً وذكريات تفصل بينه وبينها مسافات زمانية وشعورية.
ولولا تأثير المسافة لما كان ثمة فارق بين الذكريات القريبة التي يحكيها الشاب عن حادثة مضت عليه قبل بضع سنوات، والذكريات البعيدة التي يحكيها الشيخ العجوز عن حوادث مضت عليها عشرات من السنوات، والأخبار التي دونها المؤرخون عن أشخاص ماتوا قبل قرون كثيرة أو قليلة..
إنه أثر المسافة.. يُرى، ولا يزول!