ما زال الحديث عن اللغة العربية يراوح مكانه منذ فترة ليست بالقصيرة لدى أبنائها.. فهي ما بين شاكٍ من صعوبتها وصعوبة درسها وتدرسيها وتناولها، وآخر متغنٍ بروعتها وجمالها وفائقيتها وبزّها للغات عامة وقاطبة..

وما بين هؤلاء وهؤلاء يبقى حال اللغة كما هو، من تعهّد بحفظها بكتابٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحال الناطقين بهذه اللغة، من العزوف عن الفصحى إلى اللهجات، وموت كثير من اللفظ الذي يمكن استحياؤه شعرا ونثرا، وعدم قدرة -منا لا من اللغة- عن اللحاق بألفاظ مخترعات، أعلى حافظ إبراهيم شوقي صوته بلفظ بيته الأشهر بأن اللغة قادرة على احتوائها ووسعتها، لكننا نحن الذين لم نَسَعْ أو نتسع..

في “يوم العربية” هل أكتب عن حقائق اللغة، أم واقعها، أم مستقبلها؟! فأنا في الأول غير محيط بلغةٍ وسعت كتاب الله، وفي الثانية أنا ومثلي أحدُ إشكالاتها ومشكلاتها، وفي الثالثة أنا لا أملك بحوث استشراف أو مراكز بحثية حقيقٌ بها أن تجيب عن مثل هذه الأسئلة وغيرها.. ولكن ما لا يُدرك كله لا يترك جُله، وها هي “دندنات” وأنّات في يوم اللغة العربية من أحد أبنائها ودارسيها ومدرسيها ومصححيها ومحرريها وباحثيها..

قارئي الكريم، هل ينبغي التذكير في كل “يوم للعربية” أننا بخدمة اللغة العربية نخدم الدين الذي تلعب فيه هذا اللغة دورا ليس بخافٍ على أحد، فالقرآن نزل باللغة العربية والحديث الشريف والعبادات تُقام وتؤدى باللغة العربية، وأمهات كتب الفقه والشريعة جاءت بالعربية وووو.. أينبغي التذكير بذلك لكي يهتم بهذه اللغة “المتدين” أيا كان هذا التدين وسطيا أم مرحليا أم أم أم…. وأن قبول هذا الدين الفطري الخاتم مقرون بقبول هذه اللغة، أو التمهيد والتعبيد لقبولها؟! فهي لغة الدين و”المتدين” والمسلم لا لغة “رجل الدين” والمتخصص فيه.

تبقى أهم قضايا العربية دوما وأبدا هي كفاية اللغة في التعبير عن الجديد ومسايرتها للعلوم جميعا، وهذا ليس في أساسه دور اللغة بل المتحدثين باللغة

هل ينبغي التذكير في كل مرة أن حضارتنا قامت وفي صلبها وأسّها وفي هدفها اللغة، فكانت العلوم اللغوية ثمّ كان غيرها، وإن شئت فقل: جاءت العربية وجاء معها غيرها، إما مصحوبا وإما لاحقا.

أينبغي التذكير في كل مرة أن العربية أثرت أثرا لا ينكره ذو عقل في عدة لغات يحترمها أهلوها ويتكلمون بها الآن معتزين مبدعين، منجزين ومتحضرين، أصحاب مشروع ورؤية، وأننا لا نحسن قراءةً أو كتابة بهذه اللغة المؤثرِّة بل نسعى ونطنطن باللغة المتأثرة، متغنّين بالجمال والروعة.. وما الفارسية والتركية والأردية والأسبانية منا ببعيد.

أيطربك أن أنادي بإعادة الدعوة لتقريب العربية الفصحى من العامية في كل بلد؟!! إن كل عامية عربية تمتد بنسب إلى العربية الأولى، فلا مشاحة إذن في أن أنادي بهذا، ولكن أي عامية نختار؟!!

ثم أستدرك نفسي لأبدأ من القناعات، من البدايات لأسأل: هل نحتاج إلى العربية أم إن العربية تحتاج إلينا؟ أم إن السؤال غير ذي جدوى في منطلَقه؛ إذ لا حياة لفرد بدون لغة، ولا لغة حيةً بدون أفرادها وناطقيها!! وأن من أبرز النطق ومن أنفعه أن ندرس ونشر بلغة فصيحة، وأن نتكلم بلغة فصيحة ، ولا أقول فصحى، وهذا أقل القليل.

إن نشر البحث العلمي بلغة غير العربية يبقيه حبيس فئة ليست بأقدر على استيعابه والاستفادة منه من فئة لا تعرف هذه اللغة المنشور بها البحث، ولذا يبقى النشر باللغة الأم أجدى وأجدر في البحوث التي يراد لها أن تذيع ويكون لها أثر ما.

وما سبق إحدى معارك العربية التي تتعدد معاركها في كل عصر..

ومعاركها دائما لم تكن معارك وجود، بل معارك تفاعلٍ وتفعيلٍ، لم يشْكُ أحد من أن العربية إلى زوال، أو أنها في طرقها إلى ذلك، ولكن الشكوى دائمة وقائمة حول مدى الإجادة والتجويد، التفاعل والتفعيل، بين فصحى يراد لها أن تشيع وعاميات تفرِّق أكثر مما تجمع.. معارك واهية لكنها عاتية!!

لست أدري إلى متى سيظل هذا الحديث مكرورا أو معادا أو قابلا لهذا؟ لكني على يقين أنه إذا كانت الإرادة والإدارة لانتفت هذه الهوّة المدعاة، ولغابتْ مثل هذه الأسئلة التي تأخذ من الجهد قدرا يمكن أن يُوفَّر في الانطلاق إلى عالمية كانت حاضرة لهذه اللغة اشتكى الغرب من سطوتها حينا ليس بالقصير.

لا بد أن تكون البداية من طرق تدريسنا للغة العربية التي ما زلنا نركز فيها على القواعد دون تنمية المحصول والملكات

وتبقى أهم قضايا العربية دوما وأبدا هي كفاية اللغة في التعبير عن الجديد ومسايرتها للعلوم جميعا، وهذا ليس في أساسه دور اللغة بل المتحدثين باللغة الذين ينبغي عليهم أن يكونوا متطورين بلغتهم لا بلغة غيرهم، متعلمين ومفكرين بلغتهم لا بلغة غيرهم؛ ومن ثم إذا أبدعوا أبدعوا بلغتهم وبمصطلحاتهم؛ وبهذا نخرج من دائرة الشكوى واللائمة، وننتقل  من قضايا الألفاظ والتراكيب، إلى قضايا الكفايات.

ولكي يكون هذا لا بد أن تكون البداية من طرق تدريسنا للغة العربية التي ما زلنا نركز فيها على القواعد دون تنمية المحصول والملكات. وحين نفعل ذلك ونفعِّله تكون اللغة لغة أفكار ومعان قبل أن يكون وكدنا على الألفاظ والمفردات.

إننا نظل ندرّس قواعد اللغة -ولا أقول اللغة- ستة عشر عاما ولا يستقيم بها لسان طالب، ولا يستطيع أن يعبر بها عن خلجات نفسه، حتى وإن كان ماهرا في التعبير والإبانة عن نفسه بطرق عدة، ليس بينها بالضرورة اللغة العربية الفصيحة، بله الفصحى. (و”بله” هذه: اسم فعل أمر بمعنى اترك أو دع عنك، وحوّرتها اللهجة المصرية إلى كلمة “بلاها” أو “بلاه”، فتقول مثلا في حوار مع صديق ما: بلاها القصة دي، بلاه الموضوع ده= سيبك من الموضوع ده).

وأتركك قارئي مع رجاء أن تدع لومي على “فضفضات” غير ذات سلك ناظم، إلا التعنّي بلغة ما زلنا نضيّعها وتأبى إلا الصمود، وألا تقول: بله الموضوع هذا.