“النجاة” مفهوم قرآني أصيل، وله مستويان: مستوى الفرد، والمجتمع أو الأمة. والمشكلة أن البعض يخلط بين هذين المستويين وما يقتضيه كلٌّ منهما؛ فيقع فيما يظنه النجاة بينما هو الهلكة!
و”النَّجَاةُ” في اللغة من: نَجا يَنْجُو، نَجْوًا، ونَجاءً، ونَجاةً. وهي: مَا ارتفَع مِنَ الأَرض فَلَمْ يَعْلُه السَّيلُ فَظَنَنْتَهُ نَجاءَك، وَالْجَمْعُ نِجاءٌ. وَمن ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}؛ أَي نَجْعَلُكَ فَوْقَ نَجْوةٍ مِنَ الأَرض فنُظْهِرك أَو نُلْقِيك عَلَيْهَا لتُعْرَفَ، لأَنه قَالَ بِبَدَنِكَ وَلَمْ يَقُلْ برُوحِك؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ نُلْقِيكَ عُريانًا لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَك عِبْرَةً. والنَّجَاةُ تأتي أيضًا بمعنى: الخَلاص مِنَ الشَّيْءِ([1]).
فالنجاة في معناها اللغوي تشير إلى الارتفاع عما يوجب الهلاك، وإلى الخلاص مما تحذر منه.
وقد وردت النجاة بمشتقاتها في القرآن باستعمالات عدة:
• مرة لبيان من ينجيهم الله تعالى في الآخرة، مثل قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزمر: 61).
• ومرة في معرض الامتنان بأنه سبحانه ينجني عباده في الدنيا مما يحذرون؛ مثل ما وقع مع نبي الله يونس، والذي هو نموذج لما يكون مع المؤمنين عامة؛ مثل قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (الأنبياء: 87، 88).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ- وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ- يَقُولُ: سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعي بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِل بِهِ أَعْطَى، دعوةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى”. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: هِيَ لِيُونُسَ بْنِ مَتَّى خَاصَّةً وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً، إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}. فَهُوَ شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ دَعَاهُ بِهِ”([2]).
• كما كانت النجاة مقصودًا للمصلحين، مثل مؤمن آل فرعون الذي دعا قومَه إليه، قائلاً: {يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} (غافر: 41).
وقيل في معنى النجاة هنا أنها: الإيمان، أو الجنة؛ ولا خلاف فإن الإيمان طريق الجنة وسبيلها؛ فجاز أن تُطلَق النجاة على السبيل أو على الغاية.
• كما انشغل الصحابة أيضًا بالنجاة، حتى صارت محلَّ سؤال يوجهونه إلى النبي ﷺ ليدلهم على طريقها، وجاء الجواب شافيًا منه ﷺ؛ فعن عقبة بن عامر قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ؛ ما النَّجاةُ؟ قال: أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِكَ” (سنن الترمذي).
إذن، يتضح لنا أصالة هذا المفهوم في الاستعمال القرآني والنبوي، وأنه مفهوم متداول بين المؤمنين قبل الإسلام وبعده؛ إذ إن الرسالات السماوية جميعها لا هدف لها إلا تحقيق الفوز للمؤمنين في دنياهم وأخراهم؛ حتى ينالوا السعادة في الدنيا، ورضا الله تعالى وجنته في الآخرة؛ وتلك هي حقيقة النجاة.
النجاة في مستواها الفردي
وكما أشرنا، فإن للنجاة مستويين؛ مستوى الفرد، ومستوى المجموع: مجتمعًا وأمةً. وللأسف يخلط البعض بينهما، ولا يعرف ما ينبغي لكل مستوى منهما.
وفي المستوى الفردي تكون النجاة بالإيمان وبعبادة الله تعالى والتزام طريقه، في خاصة الفرد وفيمن يعول، أي من يقع تحت مسئوليته. ولعل حديث عقبة السابق يفصِّل مفهوم النجاة على هذا المستوى؛ فقد تضمن أمورًا ثلاثة من عوامل النجاة، هي: إمساك اللسان، ولزوم البيت، والبكاء على الذنب.
فإمساك اللسان: أي حفظه عما لا خير فيه. وأما لزوم البيت: فقَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَمْرُ فِي الظَّاهِرِ وَارِدٌ عَلَى الْبَيْتِ وَفِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الْمُخَاطَبِ؛ أَيْ تَعَرَّضَ لما هو سبب للزوم البيت من الاشتعال بِاَللَّهِ وَالْمُؤَانَسَةِ بِطَاعَتِهِ وَالْخَلْوَةِ عَنِ الْأَغْيَارِ([3]). والبكاء على الخطيئة يكون بالندم عليها.
فالنجاة في مستواها الفردي تتطلب الإيمان بالله تعالى والتزام طريقه، والأخذ بالمعينات على هذا الطريق الذي يقتضي صبرًا ومجاهدة، وحَمْلاً للنفس على المكاره وفَطْمًا لها عن الشهوات.
النجاة في مستواها الجماعي
وهناك مستوى آخر للنجاة، هو مستوى المجموع: مجتمعًا وأمةً؛ أي وصول هذا المجموع إلى شاطئ الأمان في الدنيا والآخرة، وارتفاعه عما يُوقِع في الغفلة ويسبِّب التهلكة.. وتلك هي غاية الإسلام، وهدف المنهج الذي ارتضاه الله تعالى لعباده.
وفي هذا المستوى للنجاة أنبّه على أمرين مهمين:
الأول: أن المرء قد يكون صالحًا في نفسه لكن غير مُصلح لغيره؛ أي أنه قد أخذ بما قد يحقق النجاة على مستواها الفردي لا الجماعي. ولهذا أمرنا الله تعالى بأن نكون مع المصلحين وليس منهم فحسب، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119). وبيَّن سبحانه أن عدم التناصح موجب للهلكة، كما حدث مع بني إسرائيل، فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78، 79).
فالإسلام يريد من الفرد أن يحقق في نفسه عوامل النجاة، وأن يساعد على إيجاد هذه العوامل عند الآخرين؛ وجعل جزاء ذلك أن يكون للمسلم أجر عمله وأجر عمل الآخرين أيضًا، من غير أن يُنقَص من أجورهم شيء، كما في الحديث المعروف.. وإلا فإن صلاحه في نفسه لن ينجيه، إذا هو قصّر عن البلاغ، ولم يقم بالنصح الواجب.
الثاني: أن موجبات النجاة أو شروطها على المستوى الجماعي تختلف عن موجباتها أو شروطها على المستوى الفردي؛ فلا يكفي لنجاة المجتمع أن يكون أفراده مجموعة من العباد والزهاد، وإنما لا بد لهم من اطلاع واسع على فنون الحياة وما تستلزمه من علم وخبرة، ومن أخذ بالأسباب واكتشاف للقوانين وعمل بالسنن.. فالعبادة- بمعناها الشعائري- لن تغني شيئًا أمام معارك الحياة، ومواجهات الباطل.
ولهذا أمرنا الله تعالى بإعداد القوة، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (الأنفال: 60). وطلب منا أن نتكاتف جميعًا كما يتكاتف الأعداء جميعًا، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (الأنفال: 73)، ولاشك أن هذا يعني أيضًا أن نُعد لهم من الأسباب مثلما يعدون، لكن على قدر استطاعتنا، كما أوضحت الآية السابقة.
لماذا الخلط بين المستويين؟!
لكن البعض يخلط، للأسف، بين هذين المستويين للنجاة؛ مستوى الفرد ومستوى المجموع، ويظن أن تحقق شروط أحدهما يسري مفعوله في الثاني! وينتظر أن ينصره الله تعالى أو أن يمكّن الله لدينه في الأرض، لمجرد أن المسلمين أكثر صلاة وصيامًا ويكثرون من قراءة القرآن الكريم!
إن النبي ﷺ، وهو الأسوة الحسنة، حينما كان يدخل غزوة من الغزوات، لم يكن يقصّر في اتخاذ ما يتوافر لديه من أسباب.. فكان يستشير أصحابه، ويضع الخطط، ويرص الصفوف، ويحفز الهمم، ويستكشف مواطن ضعف العدو.. ومع هذه الأسباب، لا يكف عن الدعاء، ويكثر من الضراعة لله تعالى، ويبشر المؤمنين بالجنة وبالنصر.. أي دون أن يتكل على الأسباب ويكتفي بها، ودون أن تكون حسن صلته بالله تعالى باعثًا على ترك الأسباب أو التقصير فيها..
ولعل الخلط بين مستويي النجاة راجع إلى:
– عدم الفهم الصحيح لقانون السببية الذي هو سنة من سنن الله تعالى التي أقام عليها الكون والحياة.. مما يؤدي إلى إهمال الأسباب أو التقصير فيها.. ثم لإراحة الضمير، كما يقال، يلجأ البعض للقول بأن الإيمان كافٍ لتحقيق الفوز والنجاة!! غافلاً عن أن الأسباب تعطي نتائجها لمن يتخذها ويقوم بها، ولو كان كافرًا، وأن التقصير في ذلك لا يجبره “الإيمانُ القلبي”.. وإنما غاية الإيمان أن يحقق للمسلم الثبات، وأن يحفزه، انتظارًا لوعد الله تعالى بالنصر أو الجنة.
– عدم فهم قوانين النصر: فالنصر لا يتنزل على الغافلين، ولا على من انقطعوا للعبادة وقصروا في اتخاذ الأسباب.. وإنما يتنزل النصر على من يستوفي الشروط. لكن من رحمة الله تعالى أنه لم يطالبنا بأن نتخذ من الأسباب مثل ما يتخذ غيرنا بالضبط، وإنما طالبنا بأن نبذل ما نستطيع، ثم وعدنا بالمدد بعد ذلك. فعون الله تعالى يتنزل على المسلم وهو في أرض المعركة بعد أن يكون قد استوفى ما لديه من أسباب وطاقات.
– الفهم الجزئي لمعنى العبادة: فحصر العبادة في معناها الشعائري يجعل البعض يظن أنه متى قام بهذا الجانب، استحق نصر الله تعالى! ولا يدرك أن العبادة مفهوم واسع، ويدخل فيها اتخاذُ الأسباب، والتفاعل مع سنن الكون، وتسخير ما في السماوات والأرض لنصرة كلمة الله تعالى.. فالطبيب في معمله يتعبد لله تعالى، والفلاح في أرضه يتعبد أيضًا، وكذا كل عامل في مجال عمله.. ولا يجوز أن نقعد بجوار الحقل نكتفي بالدعاء منتظرين النبات والثمر، دون أن نزرع الأرض عملاً وجدًّا أولاً!!
إذن، علينا أن ندرك مستويي النجاة، ونعلم أن لكل مستوى شروطه ومقتضياته، وأن شروط النجاة على المستوى الفردي تختلف عنها على المستوى الجماعي، ولا تغني عنها.. وهذا يستلزم تصحيح تصوراتنا عن قوانين السببية، والنصر، والفهم الصحيح للعبادة.. من الله تعالى العون وعليه التكلان.
([1]) لسان العرب، ابن منظور، مادة (نجا)، 15/ 305، بتصرف يسير.
([2]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 5/ 369.
([3]) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفورى، 7/ 74.