كلما ترامت إلينا الأنباء بمحن المسلمين وفواجعهم،يقفز الذهن إلى أكبر محنة اضطهاد ديني في التاريخ، اضطهاد نتج عنه تعذيب الآلاف، وتهجير أضعافهم، وتنصير أضعاف أضعافهم في الأندلس الشهيدة.

 والدراسات التي عرضت لفضائح دواوين التحقيق الإسبانية كثيرة، وهي منبئة عن عمق الفداحة التي حاقت بالمسلمين من الكاثوليكية التي زهت باسترداد إسبانيا والبرتغال، وأرادت إتمام فرحتها بجبر كل الساكنة على عقيدة واحدة، ولو بحد السيف، وسنان الخازوق، ومنصات المحارق، في “هلوكست”  يُراد له النسيان.

والمستعرض لوسائل محاكم التفتيش  النصرانية يقف على الفقر الأخلاقي الرهيب الذي كانت تعانيه الكنسية التي أدارت ظهرها لتعاليم يسوع في المحبة والسلام، وجنحت إلى وصية أبيها الأكبر ” سانت أوغسطين”   القائلة ” أجبروهم على اعتناق دينكم”، فاعتبرت الإكراه والقسر إنقاذا لأرواح الخراف الضالة من الجحيم.

 وللوقوف  على حلكة تلك الليالي، فإنه يمكن العودة إلى التقارير التي  أصدرها جيش “نابليون بونابرت” بعد غزوه لإسبانيا سنة (1809م) ، إذ وجد الجنود الفرنسيون في دهاليز الكنائس أناسا في الرمق الأخير، واكتشفوا غرفا ضيّقة في حجم جسد الإنسان عمودية وأفقية يقضي فيها المدان حتى يموت، وأخرى فيها آلات لتكسير العظام وطحن الجسم، وآلة تسمى السيدة الجميلة وهي تابوت مليء بالسكاكين لتقطيع من يُوضع بها، وآلات لسلّ اللسان، وأخرى لتمزيق أثداء النساء، وأخرى للإصابة بالجنون بتقطير الماء البارد(1)، وقد عرضت بلدية قرطبة مؤخرا معرضا لبقايا هذه الآلات الجهنمية.

   كما كان العذاب والإحراق يطال المخالفين لأحكام الكنسية مثل المضارّين وهم من يتزوجون بامرأتين، وكذلك البروتستانت واليهود، وإذا أفلت أحد من العقاب بالموت الطبيعي حمُلت جثته أو عظامه وأحرقت، وإذا كان الحكم غيابيا أحرقت دمية مكانه لمزيد الترويع والتخويف للباقين العاضدين على دينهم بالنواجذ.

واعتاد الناس في هذه القرون الحالكة على المشاهد المؤلمة، حيث يصف ديورانت مؤرخ الحضارة تلك الأيام الرهيبة بقوله:” يُساق المدانون إلى خارج المدينة وسط حشود تجمّعت من مسافات بعيدة للفرجة على هذا المشهد من مشاهد العطلة، حتى إذا وصلوا إلى مكان التنفيذ شُنق المعترفون ثم أحرقوا، بينما يُحرق المعاندون أحياء، وتظل النيران تغذّى بالوقود حتى تصير العظام رمادا يُنشر على الحقول والجداول، ثم يعود القساوسة والمشاهدون إلى مدائنهم ودورهم مقتنعين بأن قربانا قُدّم استعطافا لإله غاضب من الهرطقة” (2)

  فليس مبالغا القول بأن الأمر كان اجتثاثا مفرطا للوجود الإسلامي في الأندلس، حتى صحّ أن تسمى الأمة هناك بالأمة الشهيدة، والتي لم تنج بقاياها من تلك المسلكية الجنونية إلا باللجوء إلى العدوة المغربية، بعدما أصدرت الملكة الدموية “ايزابيلا” مرسوما ملكيا في (1502م) يخيّر المسلمين بين التنصّر، أو الرحيل (3)

   ولإدراك فداحة الوضع النازل بالمسلمين المجبرين على الردة عن دينهم يحسن أن نسوق فتوى للفقيه أبي جمعة المغراوي الوهراني الجزائري  للمسلمين المضطهدين الذين راسلوه طالبين منه حلولا استثنائية لإدارة شؤونهم العبادية والاجتماعية بعد إجبارهم على دخول الكنائس، والغطاس، وأداء الطقوس المسيحية.

قال الإمام المغراوي:”اعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جلمود لا ينفع ولا يضر، وأن الملك ملك الله ما اتخذ من ولد وما كان معه من إله، فاعبدوه واصطبروا لعبادته،  فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو أنها كهدية لفقيركم، لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة ولو عوما في البحر، وإن مُنعتم فالصلاة قضاء بالليل حقّ النهار، وتسقط في الحكم طهارة الماء فعليكم بالتيمّم ولو مسحا بالحيطان….وإن أكرهوكم في وقت الصلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلواتهم، فأحرموا بالنية، وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا إلى ما يشيرون إليه من صنم ومقصودكم الله، وإن أجبروكم على شرب الخمر فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلّفوكم خنزيرا، فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم ومعتقدين تحريمه، وكذا إن أكرهوكم على محرّم ..وإن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والألغاز فافعلوا..إن قالوا اشتموا محمدا، فإنهم يقولون له ممدا فاشتموا ممدا، ناوين به الشيطان، وإن قالوا: قولوا أن عيسى ابن الله فقولوها، وانووا بالإضافة للملك كبيت الله، لا يلزم أن يسكنه أو يحلّ به، وإن قالوا: قولوا مريم زوجة له، فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل، ثمّ فارقها قبل البناء، وإن قالوا: عيسى توفيّ بالصلب، فانووا من التوفية الكمال والتشريف” (4)

    فهذه الفتوى التي نقلناها بطولها تنبئ عن  جبروت الكنيسة في تحقيق غاياتها بذرائع كثيرة مثل تغيير العادات والعبادات والأسماء وتفاصيل الحياة اليومية، وتدلّ إجاباتها عن مدى الضيق والعنت والرعب الذي كان يحياه المسلمون تحت نير  محاكم التحقيق الكاثوليكية.

 استمر الجيل الأول ممن لم تمكنه الهجرة، ولم تطله سفن الإنقاذ العثماني من الاستخفاء بدينه، متذرعا بقوله تعالى: ﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل، 106]، ولكن الأجيال التي تلت ضعف ذاكرتها تحت ضغط التعليم الكنسي والاختلاط المجتمعي، فتلاشى الوجود الإسلامي وذاب، ولولا الهبّة العثمانية الصاعدة لكان مصير الشمال الإفريقي مشابها، وما حال”سبتة ومليلية” عنا ببعيد، وقد استمرت الحروب والغزوات البحرية بين الأتراك والإسبان والبرتغال مشتعلة طوال ثلاثمائة عام، تمكنوا فيها من تحرير وهران الجزائرية نهائيا سنة (1792م) بعد  ألاف الجماجم  والأنهار المدرارة من الدماء.


(1) الغزالي محمد: التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، ط3، القاهرة، دار نهضة مصر، 2003، ص 281.

(2) ديورانت ول: قصة الحضارة، ط1، بيروت، دار الجيل، 1998،  ج 23 ص 85 .

(3) بشتاوي عادل سعيد: الأمة الأندلسية الشهيدة، ط1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000، ص137 .

(4) عنان محمد عبد الله: نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين، ط3، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة، 1966، ص 333.