عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : ” من صام رمضان وقامه ، إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ” رواه البخاري ومسلم
هي أعمارنا، تمر الأيام، ونستقبل عاما تلو عام، ورمضانا تلو رمضان، وما بينهما فالله وحده يعلم حالنا سلبا وإيجابا ، قربا أو بعدا، فهي رحلتنا إلى الله، ولدنا وسنموت، وليست النهاية المطلقة، بل الحياة الدنيا التي أمرنا أن نتقيه فيها سبحانه، ونجعلها مزرعة للآخرة، فإما نعود للدار التي أخرجنا منها، وإما الأخرى، ونسأل الله أن يعيذنا منها.
ها هو رمضان قد حل ضيفا عزيزا علينا، هدية من الله، حيث التجارة الرابحة، والأجواء الإيمانية، والارتقاء الروحي، والبناء الجاد للإرادة، والجلاء الحقيقي للبصيرة، والبعث المحفز للهمم، والفرصة المناسبة لاكتشاف الذات وقدراتها، فلنتعرف على الحق من خلال هذا الشهر العظيم.
شاءت حكمته سبحانه أن تتنوع العبادات بين الجسدية والفكرية والمالية، وتتوزع في اليوم حيث الصلوات، أو العام حيث الصيام والزكاة، أو العمر حيث الحج، وشاءت حكمته أن يكون الصيام على وجه التحديد فرصة لهدم وبناء في آن واحد، هدم لعلائق وذنوب وأوهام تسربت أو ربما تمكنت في قلوبنا وعقولنا، وبناء لهمة وإرادة وإيمان وقناعات لاكتشاف الذات والقدرات ولجم الشهوات، إنه العبادة المدرسة أو الدورة التي تهيئ مجتمع الأخوة والصبر والتعاون والكرم والتضحية والتراحم .
لقد ذكر الرسول ﷺ ثلاثة أحاديث لثلاثة أمور جعل ثواب من قام بها (غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وكأن الله سبحانه يود المغفرة للجميع، يعرض فرصا لنيلها، فإن فاتت أحدنا فرصة، فليتشبث بالأخرى، وهكذا، فإن أفلتت كلها منه؛ فربما يصدق عليه حديث آخر “رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له”، أي خاب وخسر، فهو بأجوائه العامة رحمة ولين وسكينة، فيه النفحات والرحات، وفيه تصفد الشياطين وتفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار، فكيف يمضي رمضان ولم نحصل على المغفرة من جهة، وبلوغ منزلة التقوى التي جعلها الله ثمرة رئيسة التشريع ركن الصيام!؟
لقد قال ﷺ: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”، وقال الحديث نفسه ولكن بالقيام بدل الصيام “من قام رمضان..”، وقال في الحديث الثالث: “من قام ليلة القدر ..”، هي فرص ثلاث، يتودد بها الله لعباده ويرتب عليها المغفرة التامة لما سلف من عمره، فليستقبل ما بقي منه بطاعة واستقامة وأمل عريض بأن الله حافظه ومثبته وراعيه، فهو مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ولن يجعل للشيطان أو الكافرين سبيلا على المؤمنين: “إن عبادي ليس لك عليهم سلطان”، “ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.
كم نحن مقصرون وبخلاء في حق أنفسنا، وكم هي النفوس ضعيفة في إدراك ما يهمها ويعلي شأنها، من منا الذي لا يريد أن يغفر له الله ما تقدم من ذنبه، ويرتفع إلى أعلى درجات الجنة؟ من منا الذي لا يحب أن يتخلص من أثقال الدنيا التي جذبته نحوها ولا تسمح له بأن ينظر إلى أعلى حيث الهمة والحرية الحقيقية والارتقاء، ومن منا الذي لا يحب أن يحلق هناك عاليا بعزة وأنفة واباء، اليحس بكرامته وكيانه وقيمته، لقد أثقلتنا الذنوب والأوهام، ونحن في نزاع شديد بين ما يريد أن يرتفع بك، وما يريد أن يهبط بك، وفرصة من فرص الانعتاق هي هذا الشهر العظيم، حين أدرك نفسي وأتعرف على كياني وأتخلص من ذنوبي وأرتقي بروحي ونفسي وعزبتي وإرادتي.
إن لله في أيام دهرنا نفحات، فلنتعرض لها، هناك فرص قد لا تلوح مرة أخرى، وهناك عمر واحد لا يتكرر، وكلنا يعرف من كان معه العام الماضي وقد غاب عنا اليوم، وهي سنة الحياة، فلم تغفل عنها من جهة، ولا ندرك قيمة البناء الحقيقي إلا في لحظات أو مدة قليلة من أعمارنا ، فشتان بين من سخر عمره وطاقاته لله، وبين من عاش في غير هذا المسلك، وإن كان قد أدركته رحات الله، فلم لا نفكر هذا العام جميعا بأن تكون عظماء، نعم عظاء عند الله وفي ميزانه، حين نتوب لا من الذنوب المعلومة فحسب، بل من ضعف إرادتنا وقصر نظرنا وضيق مساحة اهتماماتنا ومسؤولياتنا، فكن عظيما بهمتك العالية، وغيرتك على الدين والمسلمين جميعا، وفي تفكيرك الدائم كيف ننصر دين الله، وكيف ندعو إلى الله، وكيف ترفرف راية (لا إله إلا الله) فوق الدنيا كلها.
إنها الهمم التي ترنو إلى القمم، وإنها النوايا الصادقة والعزائم المتوثبة المتوقدة، والقناعات لا الأوهام، ولعل الصيام بأجوائه الرحيمة الواقعية الفكرية تبني هذا العزم وهذا الأمل، ولعل هذا العام دون غيره من الأعوام، نشهد فيه انتقالا وتحولا في أكثر من بلد عربي نحو العزة والحرية والإرادة الحقيقية، حين نفرح لا بطاعتنا لله في الصيام والقيام فحسب، بل نفرح لفرح إخوة لنا ذاقوا مرارة العيش في أجواء الظلم التي خيمت عليهم عقودا من الزمن، حين تراخينا وخلطنا مفهوم الصبر بالضعف والحذر بالجبن، وكان استخفاف حكام بشعوبهم فأذلوهم وساموهم سوء العذاب.
كما تخطط لحياتك عموما، وكما تخطط لرمضان من حيث الطعام والشراب والدعوات والسهرات، فلنخطط لما فيه صالح حالنا، وما فيه ارتقاء أرواحنا، ولا رقي بلا تحلل من الذنوب، وصفاء للنفوس، وترتيب للأولويات، وإدراك للمسؤوليات، بعيدا عن استخفاف النفس واحتقار النظرة إليها، فلنكن أصحاب نفوس كبيرة متصلة بخالقها متشبثة بالرجاء فيه وحده سبحانه.