يظن البعض أن حقوق ومكانة غير المسلمين في المجتمع المسلم تمثل بطنا رخوا تُمكن من الهجوم على الفكر والفقه الإسلامي وانتقاصهما والنيل من حقيقة الدين، ويستدعى هؤلاء بعضا من المقولات الشاردة في الفقه وينتزعونها من سياقها السياسي والاجتماعي، ليذهبوا إلى القول بأن المجتمع المسلم لا مكان فيه للأقليات الدينية.
تعد العلاقة مع الأقلية أحد أهم المقاييس لمعرفة تحضر أي مجتمع، وأدرك الفقهاء والمفكرون المعاصرون الاتهامات الموجهة إلى الإسلام والتي تزعم إساءته إلى الأقليات الدينية، لذا قاموا بجهد كبير على مدار تلك الفترة لتجلية حقيقة الإسلام وموقفه، والتأكيد أن الأقليات في ظل الإسلام نالت حقوقها كاملة غير منقوصة.
ويمكن القول أن الفكر الإسلامي المعاصر فيما يتعلق بالأقليات دار حول عدة موضوعات رئيسية، منها تحرير المفهوم، فسعى إلى إعادة بناء المفهوم التاريخي الخاص بالأقليات وهو “أهل الذمة” ليتناغم مع التطور في بناء الدولة الحديثة بعد “معاهدة وستفاليا” 1648[1] والتي كانت البداية لبناء مفهوم المواطنة بمعناها الحديث، كذلك التأكيد على حقوق الأقليات الكاملة فلا مجال لانتقاص أو بخس، ولا مكان للمواطن من الدرجة الثانية، باعتبار ذلك تنفيذيا لحقيقة الدين الذي يعتبر الاعتداء على غير المسلمين الآمنين أو انتقاص حقوقهم جُرما لا ترضاه السماء، كذلك ناهض الفكر الإسلامي المعاصر روح التعصب داخل المجتمعات المسلمة التي صنعها بعض الوعاظ وذوي الاتجاه الحركي، الذين قرأوا الإسلام قراءة منقوصة ومشوهة وكان ضجيجهم يشغب على كثير من الاجتهادات في تلك القضية.
أدرك الفكر الإسلامي المعاصر أن القراءة للتجربة التاريخية الإسلامية ليس فيها أي تعسف تجاه غير المسلمين، فالشريعة اعترفت لهم بالوجود وشرعت عليه الأحكام والحقوق والواجبات، وأوجدت لهم من الضمانات ما يحفظ ديمومة بقائهم دون خوف من إكراه أو ظلم، لذا كان المفكر طارق البشري يعلن بوضوح أنه “ليس في تاريخنا في موضوع الأقليات ما يشين“، ومما ساهم في قوة الأفكار التي طرحها الفكر الإسلامي المعاصر في مجال الأقليات هو أن كثيرا ممن كتبوا في هذا المضمار جمعوا بين الفقه الشرعي ودراسة القانون الوضعي، فلعب العلماء خريجوا مدرسة القضاء الشرعي[2]، مثل: الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ علي الخفيف دورا مؤثرا استخلاص آراء الفقهاء وصياغتها في شكل قانوني يمكن استيعابه.
خطاب الحقوق
اهتم الفكر الإسلامي المعاصر بخطاب الحقوق للأقليات على أسس من الإسلام، لذا كتب كثير من الفقهاء عن حقوق غير المسلمين أو أهل الذمة، ذلك المصطلح الذي كان شائعا وقتها، وكان الشيخ محمد عبده رائدا في هذا المضمار على مستوى الأفكار والممارسة، ومن يطالع تفسير المنار أو الأعمال الكاملة التي جمعها الدكتور محمد عمار سيجد بسهولة تلك الجهود الذي بذلها في هذا الشأن، والتي كان يرى فيها ضرورة استيعاب الأقلية وضمان حقوقها، ونشير إلى أن الشيخ محمد عبده هو من صاغ برنامج الحزب الوطني في 18/12/1881م، والذي كان يمثل الحركة الوطنية المصرية في القرن التاسع عشر، ويقول فيه: “الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليها لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذي يعضدون هذا الحزب ويعتقدون أن الشريعة المحمدية الحقة تنهى عن البغضاء، وتعتبر الناس في المعاملة سواء”[3].
أما الشيخ عبد الوهاب خلاف[4] ، فكانت اجتهاداته أكثر قفزا للإمام وأكثر جرأة خاصة المتعلقة بما يمكن تسميته “فقه الدولة” أو السياسية الشرعية، وتجلى ذلك في كتابه ” السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية” الكتاب يقع في (150) صفحة لكنه نفيس وتجديدي في محتواه، فهو رحلة بحث وفكر طويل ابتدأت منذ اختياره للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي في العام (1342=1923م) حيث درس للطلاب مادة السياسة الشرعية، وتميزت تلك الفترة بأن الفكر المصري كان فيها متوهجا بفعل “ثورة 1919” والتي شهدت تلاحما وتعاونا كبيرا بين المسلمين والأقباط لإنجاز الثورة، وكان علم “السياسة الشرعية” كما وصفه الشيخ خلاف “علم ناشيء”، والحقيقة أن تلك النشأة جاءت في وقت تميز بالعافية الاجتماعية في العلاقات بين الأقباط والمسلمين.
لذا كان الاجتهاد قريبا من لحظة التوهج الاجتماعي والسياسي، يقول الشيخ خلاف “الإسلام جعل لغير المسلمين الحرية التامة في أن يقيموا شعائر دينهم في كنائسهم ومعابدهم وجعل لهم أن يتبعوا أحكام دينهم في معاملتهم أحوالهم الشخصية”[5]، ومن الأشياء المهمة التي أكد عليها الشيخ خلاف أن الاجتهاد في مسألة غير المسلمين ليس كلمة نهائية، ولكن واقع يتجدد مع تغير السياق والظروف المختلفة خاصة السياسية، لذا انتقد الشيخ خلاف بجرأة بعض الممارسات في التجربة التاريخية مثل إجبار غير المسلمين على ارتداء زي معين، ورأى أن ذلك ليس من الدين أو الشريعة في شيء.
وفي خطاب الحقوق يمكن التوقف عند رسالة الدكتوراه التي أعدها العلامة العراقي الدكتور عبد الكريم زيدان، حيث كان من أوائل من اهتم في المجال الأكاديمي بالبحث العلمي الرصين في أوضاع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، ففي رسالته “أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام” والتي حصل بها على الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1962، يقول زيدان في مقدمته” وقد إلتزمت في بحثي أن أكون وراء الشريعة دائما، استخلص أحكامها كما هي، فلا أطوعها لما تهوى نفسي، ولا أحملها ما لاتحتمل، ولا أُقولها مالم تقل“، وفي هذه الكتاب المهم اجتهادات فقهية مقارنة، وقد رجح فيها “جواز الإستحداث والبناء للمعابد”[6] .
أما علامة الهند “أبو الأعلى المودوي” فأصدر كتابه “حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية”، والذي كان مقالا نشره في مجلته “ترجمان القرآن” عام 1948، وأكد فيه أنه سيكون لغير المسلمين في الدولة الإسلامية من حرية الخطابة والكتابة، والرأي والتفكير، والاجتماع، والاحتفال، ما هو للمسلمين سواء بسواء، وسيكون عليهم من القيود والالتزامات في هذا الباب ما على المسلمين أنفسهم، فسيجوز لهم أن ينتقدوا الحكومة وعمالها حتى ورئيس الحكومة نفسه بحرية في ضمن حدود القانون، وسيكون لهم من الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين لنقد مذاهبهم ونحلهم، ويجب على المسلمين أن يلتزموا حدود القانون في نقدهم هذا كوجوب ذلك على غير المسلمين”، وفيما يتعلق بأعمال العمل والكسب والتجارة أكد أن “كل أعمال الكسب والمهن في كل المجالات مفتوحة على مصراعيها للمسلمين وغيرهم، ولا يمتاز المسلمون عنهم بميزة”[7].
وممن اهتم بغير المسلمين في أفكاره وأبحاثه المستشار والمؤرخ طارق البشري وأنتج فيه عدة كتب، ورأى أن “أنه لا توجد ضمانة للأقليات في بلادنا إلا بأن تقدم هذه الضمانة من داخل الفكر الإسلامي وبمادته”، أما الفقيه السوري الدكتور وهبه الزحيلي، فأسس الحقوق على الفقه الإسلامي، فذكر أن ” فقهاء الحنفية قالوا أن: أهل الذمة في المعاملات كالمسلمين، ما جاز للمسلم أن يفعله في ملكه جاز لهم، وما لم يجز للمسلم لم يجز لهم” ويقول:” ولم يقتصر القرآن الكريم في تقرير الحرية على حرية العقيدة، بل عمَّ الإسلام في منهاجه السياسي جميع أنواع الحريات، مثل حرية النقد والاعتراض، وحرية التنقل، وحرية العمل، وحرية الممارسة للشعائر الدينية، دون إخلال بقواعد النظام العام”[8].
تجديد المفهوم
خاض الفكر الإسلامي المعاصر جهدا للتحول عن استخدام المفهوم التراثي “أهل الذمة” نحو مفهوم أكثر قبولا لدى غير المسلمين، فقد كان هناك إدراك لدى الاجتهادات المعاصرة بطبيعة الدولة الحديثة التي تأسست في العالم، والتي جعلت المواطنة مكونا مركزيا ومحوريا في فكرها السياسي والمؤسسي بغض النظر عن بقية الاعتبارات الأخرى، وهذا جعل الاجتهادات تتناغم مع التطور الجديد في القانون الدولى والقانون الداخلي، فتحول مفهوم أهل الذمة إلى مفهوم تاريخي، وهذا فتح الباب أمام اجتهادات متنوعة، فيحكي الشيخ يوسف القرضاوي عن كتابه “غير المسلمين في المجتمع الإسلامي” الذي أصدره عام 1977 بأنه لم يفضل استخدام مصطلح أهل الذمة، ويقول:” ولكني لم أختر لكتابي عنوان “أهل الذمة” كما فعل الإمام أبو الأعلى المودودي رحمه الله ، لما أصبحت كلمة “أهل الذمَة” غير مقبولة عند إخواننا من مواطنينا من أهل الكتاب الذين يعيشون بين ظهرانينا، وهم من بني جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، ويشعرون بأن هذه الكلمة توحي بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، ولهذا لم أر بأسا من حذف هذا العنوان”[9].
وقد رأي الفقيه الدستوري الدكتور توفيق الشاوى أهمية الاستغناء عن مصطلح “أهل الذمة” من أجل ازالة الشبهات حول الفكر الاسلامي ، أما الدكتور محمد سليم العوا فصاغ رؤيته بطريقة أقرب إلى الشعار، فقال أن “الذمة عقد لا وضع”[10]، وأصدر المفكر التونسي راشد الغنوشي كتابه “حقوق المواطنة: حقوق غير المسلم في المجتمع الإسلامي”،وأصدر “فهمي هويدي” كتابه “مواطنون لا ذميون” مؤكدا أن المواطنة أصبحت بديلا عن عقد الذمة، وأن مصطلح أهل الذمة لا يستند إلى نص قرآني، مما يؤكد أنها اجتهاد فقهي بشري ليس إلا”([11]).
وفي المجال الأكاديمي كانت أوضاع غير المسلمين وقضاياهم تشغل الكثير من الجامعات، فجرى البحث في النصوص الشرعية، والتجربة التاريخية لاكتشافها من جديد وتقديم قراءات عصرية واجتهادات مبنية على الرؤية الإسلامية ففي جامعة أم درمان الإسلامية هناك عدة رسائل للدكتوراه منها: ” أحاديث أهل الذمة في الكتب التسعة : جمعاً ودراسة وتخريجاً” لحسين سليمان عبد الله، و”أهل الذمة في القرآن الكريم : دراسة موضوعية” للباحثة آمنة حامد موسى، و” أهل الذمة في الدولة الإسلامية”لمحمد مسعود أحمد صاقع رأسه، و”أحكام أهل العهد وأهل الذمة في التشريع الإسلامي: دراسة مقارنة” لـ”خالد ظفر خلف الكليب” ، وفي الجامعة الأردنية عدة رسائل دكتوراه، مثل: “أهل الذمة في بلاد الشام في العصر العباسي” للباحثة فايزة عبدالرحمن حجازي، و” أهل الذمة في العراق في العصر السلجوقي” للباحث يحيى أحمد عبدالهادي من الجامعة الأردنية، و” الضرائب على غير المسلمين فى المجتمع الإسلامى المعاصر” للباحث سمسوري شريف عبد الرحمن، في جامعة اليرموك.
[1] تم الاتفاق على أن يتم تعيين ما سمي وعرف بعد ذلك بـNation State أو الدولة القومية، والتي كانت تعني أن يتخذ كل مجموعة من الأعراق وأصحاب اللغات المتشابهة أرضا ويعينوا لها حدودا وتصبح بذلك دولتهم التي لا يُغير عليها أحد ولا يشاركهم فيها أحد.
[2] راجع موضوع: أثر مدرسة القضاء الشرعي في الفكر الإسلامي
[3] محمد عمارة-الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده-دار الشروق-القاهرة-الطبعة الأولى-1993-ص:404
[4] الشيخ عبد الوهاب خلاف (1888 ـ 1956) واحدا من أبرز الفقهاء المجددين والمجتهدين في الشريعة الإسلامية
[5] عبد الوهاب خلاف- السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية-المطبعة السلفية-1350هـ-ص:35
[6] تمام عودة-أثر المصلحة في تقرير الأحكام الشرعية: بناء معبد غير المسلمين في المجتمع الإسلامي أنموذجا-مجلة إسلامية المعرفة-العدد (75)-ديسمبر 2014
[7] راجع أبو الأعلى المودودي-حقوق أهل الذمة-مكتبة المختار الإسلامي-القاهرة-1980
[8] وهبه الزحيلي- مفهوم المواطنة في المنظور الإسلامي- على الرابط
[9] يوسف القرضاوي- كتابي «غير المسلمين في المجتمع الإسلامي»-موقع القرضاوي على الرابط
[10] – استند الدكتور سليم العوا في ذلك إلى آراء الفقهاء إلى ما كتبه الفقيه، مث الفقيه الحنفي أبو البقاء الكفوي 1094 م = – 1683 م) في كتابه “الكليات ” كان من قضاة الاحناف حيث قال عن اهل الذمة ” وسمي العقد مع غير المسلمين بها لأن نقضه يجلب المذمة” حيث راى الفقهاء ان هذا العقد عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم
[11] فهمي هويدي-مواطنون لا ذميون-دار الشروق-القاهرة-الطبعة الثالثة-1999-ص:125