تنهض الأمم ببذل الجهد واستفراغ الوسع في التعلم والتعليم، وفي البحث والتفكير لحل المشكلات، وفي أداء الواجبات والتكاليف على اختلافها وتنوعها، وفي استكشاف الكون وهذا هو المدخل للاتقان والإحسان في أداء الأعمال، وسبب من أسباب التخلف الذي يُعاني منه المسلمون اليوم هو المفاهيم الخاطئة التي علقت في أذهان الكثير من المسلمين، ومنها الفهم الخاطئ لمعنى قول الله عز وجل: فاتقوا الله ما استطعتم.

الكثيرون يصرفون معنى الاستطاعة إلى الضعف وقلة الجهد المبذول في أداء العبادات والقربات وأداء الأعمال بشكل عام، ويحملونها على معنى سلبي يفتح الباب للتكاسل والتواكل، بينما الاستطاعة تدل على بذل الجهد واستفراغ الوسع في فعل الشيء، ففي المعجم الوسيط:”اسْتَطَاعَ الشيءَ: أَطاقه وقَدَر عليه وأَمكنه. واسْتَطَاعَ فلاناً ونحوَه: اسْتَدْعَى طَاعَتَهُ وإجابته” .

وفي معجم الغني:” ط و ع. مصدر اِسْتَطَاعَ: في اسْتِطاعَتِهِ القِيَامُ بِهَذَا العَمَلِ: في إِمْكانِهِ، أَيْ لَهُ القُدْرَةُ على القِيَامِ بِذَلِكَ.  ط و ع. فعل: سداسي متعد. اِسْتَطَاعَ، يَسْتَطيعُ، مصدر اِسْتِطاعَةٌ. اِسْتَطاعَ الْمَشْيَ: قَدَرَ عَلَيْهِ، أَطاقَهُ”.

وفي معجم اللغة العربية المعاصر:”استطاعَ يستطِيع، اسْتَطِعْ، استطاعةً، فهو مُستطيع، والمفعول مُستطاع. واستطاع الأمرَ:

1- قدَر عليه وأمكنه، أطاقه وقوي عليه، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.

2- وجدَه:{فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} .

يقول الله عز وجل:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. سورة التغابن: 16.

يقول ابن عاشور في تفسيره للآية:”فاتقوا الله ما استطعتم” مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال تبعًا لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان. وجعلت الأزمان ظرفًا للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حدّ الاستطاعة إلى حدّ المشقة قال تعالى:{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} سورةالبقرة: 185. فليس في قوله:”فاتقوا الله ما استطعتم” تخفيف ولا تشديد ولكنه عَدل وإنصافٌ، ففيه ما عليهم وفيه ما لهم”.

ويقول الشيخ طنطاوي في الوسيط:” و(مَا) في قوله: “فاتقوا الله ما استطعتم” مصدرية ظرفية. والمراد بالاستطاعة: نهاية الطاقة والجهد. أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي لا يشغله ماله أو ولده أو زوجه عن ذكر الله- تعالى- فابذلوا نهاية قدرتكم واستطاعتكم في طاعة الله- تعالى- وداوموا على ذلك في جميع الأوقات والأزمان. وليس بين هذه الآية، وبين قوله- تعالى- {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ} تعارض، لأن كلتا الآيتين تأمران المسلم بأن يبذل قصارى جهده، ونهاية طاقته، في المواظبة على أداء ما كلفه الله به، ولذلك فلا نرى ما يدعو إلى قول من قال: إن الآية التي معنا نسخت الآية التي تقول:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ}”.

ويقول الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ}. سورة البقرة: 286.

يقول ابن عاشور في تفسيره:” والوسع في القراءة بضم الواو، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. والمستطاع هو ما اعتادَ الناسُ قدرتَهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع”.

وفي تفسير الشعراوي:”{لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إنّه سبحانه لم يكلفكم إلا ما هو في الوسع. لماذا؟ لأن الأحداث بالنسبة لعزم النفس البشرية ثلاثة أقسام: القسم الأول: هو ما لا قدرة لنا عليه، وهذا بعيد عن التكليف. القسم الثاني: لنا قدرة عليه لكن بمشقة أي يجهد طاقتنا قليلًا. القسم الثالث: التكليف بالوسع. إذن {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي أن الحق لا يكلف النفس إلا بتكليف تكون فيه طاقتها أوسع من التكليف. إذن فهذا في الوسع، ومن الممكن أن تزيد، إذن فالأشياء ثلاثة: شيء لا يدخل في القدرة فلا تكليف به، شيء يدخل في القدرة بشيء من التعب، وشيء في الوسع، والحق حين كلف، كلف ما في الوسع. ومادام كلف ما في الوسع فإن تطوعت أنت بأمر زائد فهذا موضوع آخر {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} مادمت تتطوع من جنس ما فرض. إذن فالتكليف في الوسع وإلا لو لم يكن في الوسع لما تطوعت بالزيادة”.

وفي السنة نجد الدعوة إلى  اجتناب المنهيات، وبذل الجهد واستفراغ الوسع في القيام بما أمرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”دعوني ما تركتُكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالُهم واختلافُهم على أنبيائِهم، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منهما استطعتم”. صحيح البخاري: 7288.

والرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم ضربوا لنا أروع الأمثلة في بذل الجهد واستفراغ الوسع في العبادة وفي الدعوة إلى الله عز وفي نفع الناس، وكان كل واحد منهم أمة في بذله وعطائه، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:”كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذا صلَّى، قام حتى تفطَّر رجلاه. قالت عائشةُ: يا رسولَ اللهِ أتصنعُ هذا، وقد غُفِر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ؟ فقال:”يا عائشةُ أفلا أكونُعبدًاشكورًا”. صحيح مسلم: 2820.

وفي الدعوة نجد حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الناس حتى كاد أن يهلك نفسه كما عبر القرآن الكريم بقوله تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا٦} سورة الكهف: 6.

وعند الصحابة رضي الله عنهم نجد استفراغ الوسع والطاقة في الإنفاق، فأبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق حتى يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم:”ما أبقيت لأهلك؟” فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله، وعثمان رضي الله عنه ينفق حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم”، وطلحة بن عبيد رضي الله عنه ينفق حتى يلقب بطلحة الخير وطلحة الجود وطلحة الفياض.

والصحابة رضي الله عنهم خرجوا للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نقبت أقدامهم ولبسوا عليها الخرق وسميت تلك الغزوة بغزوة ذات الرقاع.

وتحقيق العبودية لله عز وجل يقوم على الاستسلام له سبحانه وتعالى والرضا بقضائه وقدره، ويقوم على مجاهدة النفس في فعل الطاعات واجتناب المحرمات والابتعاد عن المنهيات، يقول الله عز وجل:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ} سورة الحج: 78.

والصدق مع الله عز وجل يتطلب الإخلاص في العبادة والعمل وبذل الجهد واستفراغ الوسع في أداء ما أمر به المسلم، والابتعاد عن المحرمات، وبذلك ينال المسلم النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.