في ظل الأزمة الحالية، وانتشار جائحة كورنا الذي ساهم في تعطيل الكثير من أمور الحياة، ولم يستثني ذلك حتى الفرائض الشرعية في دول العالم الإسلامي، حيث تم تعطيلها بقرارات رسمية من الجهات المختصة، فعُطلت صلوات الجماعة داخل المساجد في غالبية الدول، وعرف نظام العمرة والحج عدة تغييرات وصلت حد المنع والإلغاء. وفي إطار تسيير هذا الوضع الخاص، ظهرت العديد من الفتاوي والبيانات وآراء العلماء في هذا الشأن، على اختلافهم مشاربهم والهيئات أو المنظمات التي يمثلونها.وفي إطار جمع هذه المواقف وتوثيقها وعرضها على الجمهور، لتكون مصدرا له، ومرجعا للأجيال القادمة في تاريخ النوازل، أصدرت “دار البشير” بالقاهرة، أحدث إصدارات الأستاذ الدكتور مسعود صبري بعنوان “فتاوى العلماء حول فيروس كورونا” والذي رصد فيه خلاف العلماء حول مآلات شرعية بشأن انتشار الوباء، من ضمنها مسألة الجمع والجماعات، وتعجيل الزكاة، كما رصد أيضا البيانات والفتاوى التي صدرت عن عدد من المجامع الفقهية، والاتحادات الشرعية، وعلماء الشريعة بخصوص انتشار الوباء.
الكاتب مسعود صبري، هو أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، وأحد كبار الباحثين في علوم الشريعة، له عدد من الدراسات المتميزة في مجالي مقاصد الشريعة، وأصول الفقه. منها: “بداية القاصد إلى علم المقاصد”و”الورقات الأصولية في شرح رسالة العكبري”.
تفاعل المجتمع العلمي الشرعي مع الوباء
أما الكتاب الذي يقع في 241 صفحة من القطع الكبير، ففي مجمله محاولة لتوثيق تفاعل المجتمع العلمي الشرعي في التعاطي مع الوباء الذي ربما لم يشهد الجيل الحالي من العلماء حادثة مشابهة له، وبالتالي فإن استعراض هذه الدراسات وتوثيقها سوف يعطى صورة واضحة عن مدى قدرة المجتمع بمؤسساته وأفراده على التعاطي المناسب مع الحوادث المستجدة، تعاطيا يراعي عامل الوقت وعامل الإحاطة وأيضا يتوافق مع الكليات الكبرى، والمقاصد العليا الحاكمة للشريعة الإسلامية.
وقد عرّف المؤلف بالكتاب فقد جاء هذا الكتاب ليرصد حركة الاجتهاد المعاصر في أخطر نوازل العصر (فيروس كورونا- كوفيد-16)، بعدما جاء سيل جرار من الفتاوى هطل على سماء الدنيا، وانتشر في الآفاق شرقا وغربا حول آثار فيروس كورونا الذي أفزع العالم مسلمهم وكافرهم، أقعدهم في بيوتهم ساكنين خائفين، وعطلهم مصالحهم، فالشوارع الصاخبة لم تعد تسمع لها همسا، والمحلات التجارية التي كانت تضج بالناس حتى منتصف الليل خاوية على عروشها، والوزارات والمؤسسات التي كانت ملأى بالمراجعين والموظفين كأنها ديار بالية، والحدائق التي كانت تملأ نشاطا وحركة ولعبا، كأنها آثار السابقين، يمر الناس عليها مرورا سريعا، كأنها ديار ثمود، ومكث الناس في بيوتهم مكثا، بعدما ملئوا البعض بيوتهم بالأغذية والأطعمة والمشروبات، في سباق – غير محمود- نحو الجمعيات التعاونية والمحلات التجارية، يخطفون البضائع دون النظر إلى أهميتها أو إعادة التفكير في الحاجة إليها، حتى أصبح الناس في الجمعيات والسوبر ماركات طوابير تذكرنا بيوم الحشر، وما هو بيوم الحشر.
وخرجت قرارات وزارات الأوقاف بعدما تفشي المرض بالفتاوى التي تمنع المصلين من الذهاب إلى المساجد لصلاة الجماعة، و عطلت صلاة الجمعة، فتحسرت القلوب وبكت الدموع.
لكن الجميل هو التزام غالب المسلمين بالأوامر، فقد أدركوا أن من أصدر تلك الفتاوى ما أراد بالمسلمين إلا خيرا، ونهأنهم أنهم ما باعوا دينهم، لكنهم خافوا على النفوس من التهلكة، ففتش الفقهاء والعلماء في بطون الكتب، واستلهموا روح الأدلة، على أن التخلف عن صلاة الجمعة والجماعة من الأعذار المبيحة التي ترفع الإثم عن المسلمين، وأنها ليست محل غضب رب العالمين، ولشدة الشوق إلى المساجد، انبرى آخرون رأوا أن تعطيل المساجد مما لا يجوز فعله، ولا ينبغي الإقدام عليه، وأن الناس في المهالك إلى الله يلجؤون، و إليه يفرون، وعليه يتوكلون، وأن الذهاب إلى المساجد منجاة من المفاوز، لكنهم على الرغم من هذا، دعوا الناس إلى الالتزام بالأوامر والقرارات، ولزوم البيوت والمقرات، سائلين الفقهاء الآخرين، والمسئولين المنوطين بمراجعة الفتاوى والقرارات، وتلك لعمري مزية في الفكر الإسلامي جميلة، فما أجمل الانفتاح في التفكير، ومراجعة الأفكار والتقارير، مع المحافظة على قرارات ولاة الأمور، وأنه ليس للعامة مخالفة الأمر، إلا بقرار ممن ملك الأمر.
توثيق تاريخي للفتاوى
بدأ المؤلف كتابه ببيان أهداف الكتاب التي من أهمها: التوثيق التاريخي للفتاوى، وبيان جهد الفقهاء المعاصرين في التعامل مع النازلة وقضاياها، واعتبار الاجتهاد والفتاوى في النازلة تمثل سجلاً ومرآة للمجتمع، وإتاحة الفرصة أمام الباحثين والمتخصصين لدراسة الفتاوى تحليلاً وتأصيلاً.
ورصد الكتاب الفتاوى والاتجاهات، وكيف عملت “ميكنة الاجتهاد الفقهي” في الأزمات، وأخرجت تلك الروح الحضارية، باتساعها في الآراء والأفكار، مع الالتزام بما يصدر عن الوزارات المسؤولة من أوامر وقرارات.
وحدد الكاتب الاتجاهات الفقهية على النحو التالي:
الاتجاه الأول: القول بجواز تعطيل المساجد في الجُمع والجماعات، مع الإبقاء على رفع الأذان، شعيرة الإسلام.
ويمثل هذا الاتجاه جمهور الفقهاء المعاصرين، من غالب المجامع الفقهية، وهيئات الفتوى الكبرى، مثل: هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والمجلس العلمي الأعلى بالمغرب، واللجنة الوزارية للإفتاء بالجزائر، وهيئة الفتوى بدولة الكويت، ومجلس الإفتاء بالإمارات، والمجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء للدعوة والإفتاء، ولجنة الإفتاء بدائرة الإفتاء بالأردن، والمجلس الإسلامي للإفتاء في الداخل الفلسطيني، وفتوى أساتذة كلية الشريعة بجامعة قطر.
ومن الأفراد: د. علي محيي الدين القرة داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، د. خالد حنفي، الأمين المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، د. سعد الكبيسي، د. مراد فضل، الأستاذ بجامعة قطر.. وغيرهم.
الاتجاه الثاني: منع الجُمع والجماعات في المساجد لمن هم مصابون بالمرض، أو يخشون على أنفسهم، ولو بالمظنة، وتبقى إقامة الجمع والجماعات واجباً، يقام بالحد الذي يمكن معه عدم تعطيل المساجد، إلا إذا قرر المختصون أن إقامة الجمع والجماعات مظنة انتشار العدوى، فيقيم الجماعة الإمام وعدد قليل معه.
ومن أبرز من ذلك إلى ذلك لجنة الفتوى بمجمع فقهاء أمريكا الشمالية، خاصة في البيان الأول والثاني، وكذلك هو رأي الشيخ محمد الحسن الددو، والشيخ سالم الشيخي، عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وهو الرأي الأول لهيئة كبار العلماء بالسعودية، بعدما انتهوا إلى رأي جمهور الفقهاء المعاصرين في الفتوى الثانية لهم.
الاتجاه الثالث: وجوب إقامة الجُمع والجماعات، وأنه لا يجوز تعطيل المساجد، ويمثل هذا الاتجاه بعض الفقهاء من أساتذة الشريعة، ولم يسجل لأي هيئة أو جهة إفتاء عامة أن قالت بهذا الرأي، فلم يصدر هذا الرأي عن اجتهاد جماعي.
ومن أبرز من قال بهذا، د. حاكم المطيري الأستاذ بكلية الشريعة جامعة الكويت، والشيخ محمد سالم الددو أحد فقهاء موريتانيا، ود. جدي عبد القادر وطاهر بلخير من الجزائر.
قضايا وأحكام
وذكر الكتاب أنه من الملاحظ أن فقهاء الأمة لم ينشطوا في نازلة مثلما نشطوا في تلك النازلة (انتشار فيروس كورونا)، بل والسعي الحثيث لنشر الفتاوى بكل وسيلة ممكنة، وأن الأزمة أبرزت عن جهد جمعي رائع في الاجتهاد الفقهي، مما يعد ظاهرة صحية من جانب الفقهاء.
كما رصد الكتاب عدداً من القضايا الأخرى، من أهمها:
- حكم القنوت في الصلوات لرفع البلاء، واتجه غالب الفقهاء إلى جواز القنوت بل استحبابه.
- حكم الذهاب إلى الحج والعمرة، واتجه غالب الفقهاء على جواز المنع.
- حكم تغسيل وتكفين الموتى بسبب كورونا، وكانت فتاوى الفقهاء تتجه نحو وجوب الغسل إن أمكن، ولو برش الماء، فإن تعذر، فالتيمم، فإن تعذر كفن وصلي عليه وسقط واجب التغسيل.
- حكم التباعد بين الصفوف في إقامة الجماعات، والراجح في المسألة الجواز خاصة في مثل هذه الظروف، خاصة أن جمهور الفقهاء يرون أن تسوية الصفوف مستحبة، ومن قال بالوجوب، فقال بصحة الصلاة مع الإثم.
- حكم الالتزام بقرارات الدول في المنع وحظر التجوال، وأنه من الواجبات الشرعية الآن.
- حكم احتكار الأسعار ورفعها في وقت هذه الأزمة، وأنه حرام شرعاً.
ولاحظ الكاتب أن فتاوى تعطيل المساجد ومنع الجُمع والجماعات استحوذت على غالب الفتاوى في المجامع والهيئات الإفتائية وفتاوى آحاد العلماء.
وقد كان منهج كتاب “فتاوى العلماء حول فيروس كورونا” في الجُمع حسب الهيئات والمؤسسات والأشخاص، وليس ترتيبا موضوعيا، لدراسة كل جهة على حدة لمن يريد، فقدمت المجامع وهيئات كبار العلماء، ثم مجالس الإفتاء المحلية في كل بلد، ثم فتاوى الأفراد.