تناول العلامة عمر بن الحسين أبو الخطاب المشهور بـ”ابن دحية الكلبي الأندلسي” فضل شهر شعبان ومزاياه في كتيب بعنوان “ما وضح واستبان في فضائل شهر شعبان”، ويصنف هذا الكتاب ضمن الأجزاء الحديثية حيث روى أحاديث الكتاب مسندة عن شيوخه إلى النبي ﷺ، والكتاب مع صغر حجمه إلا أنه اشتمل على فوائد علمية وعملية قيمة يستحق التنبه لها.
وابن دحية الكلبي السبتي أحد أعلام سبتة الكبار، الذي جمع بين فنون شتى في علوم مختلفة؛ كالحديث، والسيرة، واللغة، والأدب وغيرها، فبلغت شهرته الآفاق، وكُتب لمؤلفاتهالقبول مغربا ومشرقا، وبلغ حد البراعة فيها، حتى صارت مرجعا مهما لكل من جاء بعده من العلماء[1].
اشتمل كتابه هذا على ما جاء في اشتقاق شهر شعبان، وما ورد في فضل صيامه من أحاديث صحيحة ملتزما في كل ذلك بالرواية على طريقة المحدثين ، ثم تطرق إلى مجموعة من الأحاديث الموضوعة في شعبان وأثرها في تضييع بعض الأحكام، وتحذير الناس منها .
من فضائل شهر شعبان
- في شهر شعبان نزلت فريضة شهر رمضان
- وفي النصف من شعبان حولت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام المحفوف بالرحمة والغفران، فشق ذلك على اليهود وعباد الصلبان والأوثان، وجد رسول الله ﷺ في إعلاء كلمة الله غير مقصر ولا وان.
- كان شعبان شهرا تتشعب فيه القبائل، أي: تتفرق لقصد الملوك والتماس العطية، ويقولون: شعبانات وشعابين.
أما الأحاديث في فضائل شهر شعبان الثابتة عن سيد البرية فمنها:
1 – عن عائشة زوج النبي ﷺ أنها قالت: «كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله ﷺ استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان» . هذا حديث مجمع على صحته.
يقول أبو الفتوح العجلي: احتج الشافعي في القديم بهذا الحديث، فقال: وأكره أن يتخذه الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان، وكذلك يوما من الأيام.
قال: وإنما كرهته أن لا يتأسى رجل جاهل فيظن أن ذلك واجب، وإن فعل فحسن.
قال ابن دحية الكلبي: وهذا الذي قاله الشافعي ترده السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ، ولو حفظ الشافعي رحمه الله ذلك لرجع إليه وترك كلامه؛ لما رواه عنه الفقيه أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، قال: سمعت الشافعي يقول: ” لقد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] ، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه “.
وقد ثبت أن رسول الله ﷺ كان يصوم شعبان كله، ولم يأمرنا الله باتباع أحد إلا اتباع رسول الله ﷺ، وفيه الأسوة الحسنة التي جزاؤها الجنة.
والحديث الذي ذكرناه أخرجه البخاري في باب الصيام في باب صوم شعبان عن معاذ بن فضالة، ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، أن عائشة حدثته قالت: «لم يكن النبي ﷺ يصوم شهرا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله، وكان يقول: خذوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وأحب الصلاة إلى النبي ﷺ ما دووم عليه وإن قلت، وكان إذا ﷺ صلاة داوم عليها .
قال ابن دحية: “هذا حديث لا مطعن فيه”[2].
2 – أمر النبي ﷺ عمران بن حصين أو السائل الذي سأله أن يصوم من سرة شعبان، أعني: وسطه على اختلاف أهل اللغة في هذه اللفظة.
عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال له أو لآخر: ” أصمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين “.
وفي رواية: «إذا أفطرت رمضان فصم يوما أو يومين»
فحض رسول الله ﷺ على صيام هذا الشهر، وأمر من لم يصم منه أن يصوم بعد فطر رمضان يومين، وذلك لبركة شعبان.
3 – عن أبي سلمة قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صيام رسول الله ﷺ؟ فقالت: ” كان يصوم حتى نقول: قد صام، ويفطر حتى نقول: قد أفطر، ولم نره صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلا “. صحيح مسلم
أما الأحاديث التي اشتهرت بين الناس في صلاة ليلة النصف من شعبان فهي أحاديث موضوعة، قال ابن دحية: فقد كلف الناس عباد الله بالأحاديث الموضوعة فوق طاقتهم من صلاة مائة ركعة، في كل ركعة الحمد مرة، وقل هو الله أحد عشر مرات، فينصرفون وقد غلبهم النوم، فتفوتهم صلاة الصبح التي ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» . رواه عن رسول الله ﷺ ذو النورين أمير المؤمنين عثمان بن عفان على ما أخرجه مسلم في صحيحه.
وروى جندب بن عبد الله عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله في ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم» ، وله طرق في صحيح مسلم.
فقوله: «في ذمة الله» أي: في عهد الله.
وقوله: «فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته» : يعني: لا تعصوه؛ فتتركوا الصلاة فتخفروا ذمته، فيطرحكم على وجوهكم في نار جهنم.
وقوله: «ثم يكبه على وجهه في نار جهنم» ، يقال: كبه الله لوجهه، أي: طرحه على وجهه.
أصل ليلة الوقود وحكمها
مما أحدثه المبتدعون وخرجوا به عما وسمه المتشرعون وجروا فيه على سنن المجوس، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، واللهو واللعب من شيم ذي الحظ المنحوس، الليلة التي هي ليلة الوقود التي تسمى عند العامة بليلة الوقيد، وهي ليلة النصف من شعبان التي موقدها من الثواب شر فقيد، ولم يصح فيه شيء عن النبي ﷺ، ولا نطق بالصلاة فيها والإيقاد ذو صدق من الرواة ولا تكلم، وما أحدثها إلا متلاعب بالشريعة المحمدية، راغب في دين المجوسية، لأن النار معبودهم، وقد كذبوا واضمحلت سعودهم.
وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة، وكانت لهم دولة بالوزارة المرفوعة السامكة، وجدهم برمك هو الذي نسبوا إليه، ودينهم المجوسية فيما يعولون عليه، فأدخلوا في دين الإسلام، ما يموهون به على الطغام، وهو جعلهم الإيقاد في شعبان، كأنه من سنن الإيمان، ومقصودهم عبادة النيران، وإقامة دينهم وهو أخس الأديان، حتى إذا صلى المسلمون فركعوا وسجدوا، كان ذلك للنار التي أوقدوا.
ومضت على ذلك السنون والأعصار، وتبعت بغداد فيه سائر الأمصار، إلى أن أخفت الله صوتهم، وقدر هلكتهم وموتهم، فكانت نكبتهم في زمن هارون الرشيد، فقتل جعفرا وصلبه غير بعيد، قطعه نصفين، وصلبهما في الجانبين، وذلك سنة سبع وثمانين ومائة للهجرة المحمدية، فانقطع شرهم عن الملة الإسلامية، وهذا مع ما يجتمع تلك الليلة من النساء والرجال، واختلاط الحال بين الفريقين في ضيق المحال[3].
حكمة تفضيل شهر شعبان
إنما شرف شعبان بأن رسول الله ﷺ كان يصومه كله، ويبين بخصوصية صيامه محله.
وفيه من الفقه الحث على تعظيم الجار؛ فطوبى لمن عمل فيما يستقبل من هذه الأيام الفاضلة، وإن كانت الأعمال فيها متفاوتة متفاضلة، بما يدخره في دنياه لآخرته، ولم يكن ممن يأخذ الأمر بآخرته، وتمسك بأهداب أفعال المتقين، وتصدق والله يجزي المتصدقين، وفكر في الأقربين وذوي الأرحام، ممن أمل أن يرى هذا العام، ويشاهد هذه الأيام، فحيل بينه وبين هذا الأمل، ولم يجد إلا ما قدمه بين يديه من العمل، وكل شاة برجلها تناط، وليس في الآخر إلا التقى مناط، فرحم الله من تخلق بالكرم، الذي هو اسم من أسماء رب العالمين، وآثر على نفسه ومنح عباد الله وكف أيدي الظالمين، وتحرى بصدقة ماله فضائل الشهور والسنين، ودعا ربه خوفا وطمعا {إن رحمت الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56].
وبهذا ختم المؤلف العلامة ابن دحية السبتي كتابه جزء “ما وضح واستبان في فضائل شهر شعبان”.