أمر الله -تعالى- بالتفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى، وأثنى على المتفكرين، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). فما فضيلة التفكر ؟
عن عطاء قال: انطلقت يومًا أنا وعُبيد بن عُمير إلى عائشة -رضي الله عنها- فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عُبيد، ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول رسول الله -ﷺ-: “زُرْ غبًا تزدد حبًا”،قال ابن عُمير: فأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -ﷺ-. قال: فبكت، وقالت: كل أمره كان عجبًا؛ أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال: “ذريني أتعبد لربي -عز وجل-، “فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي، فبكى حتى بلَّ لحيته، ثم سجد حتى بلَّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يُؤذنه بصلاة الصبح، فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله تعالى عليَّ في هذه الليلة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ)، ثم قال: “ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها”.وعن الحسن قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وعن الفضيل قال: الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك.
وكان لقمان يُطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان، إنك تُديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك. فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة.
فانظر إلى الملكوت لترى عجائب العز والجبروت ولا تظن أن معنى النظر إلى الملكوت أن تمدَّ البصر إليه فترى زرقة السماء وضوء الكواكب وتفرقها؛ فإن البهائم تشاركك في هذا النظر. فإن كان هذا هو المراد فلم مدح الله تعالى إبراهيم بقوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (لا بل كل ما يُدْرَك بحاسة البصر فالقرآن يُعبِّر عنه بالمُلك والشهادة وما غاب عن الأبصار فيعبر عنه بالغيب والملكوت، والله تعالى عالم الغيب والشهادة وجبار المُلك والملكوت، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ)،فارفع الآن رأسك إلى السماء، وانظر فيها وفي كواكبها وفي دورانها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها،وكلما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله تعالى كانت معرفتك بجلاله وعظمته أتم.