كثيرة هي النصوص قطعية الثبوت والدلالة التي تفتح الباب على مصرعيه لفطرة الإنسان الحرة لتتعامل مع عالم الشهادة وعالم الغيب كما تريد، فقط هو التحذير من ولوج باب بعينه، لا سيطرة ولا إكراه ولا حتى إيماء بهما..
وهذا ما يلمح إليه قوله تعالى: “إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا”، وقوله جل شأنه: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” وقوله عز من قائل: “إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا”، وقوله تعالى: “وهديناه النجدين”….
وكأن تلك النصوص تؤكد أن الله سبحانه وتعالى قد زود الإنسان من خلال فطرته بالقدرة على معرفة الخير والشر والتمييز بينهما، ما لم تدنس تلك الفطرة، ويأتي الوحي الإلهي فقط لمجرد كشف الغطاء عن الشرورالكامنة فيما ظاهره لذة أو تشهٍ..
وكما في الآيات السابقة نجد التأكيد واضحا وقاطعا على حق الإنسان في الاختيار الحر لعقيدته ومبادئه وأسلوب حياته، بل أعمق من هذا.. حريته في أن يؤمن ويكفر به هو سبحانه جل شأنه.
الحرية في الإسلام حق فطري للإنسان، يستمده من تكريم الله له
ومن ثم منع القرآن بوضوح تام أي إكراه على الإيمان، بل لابد فيه من الاقتناع والرضا، ففي سورة البقرة نجد التقرير الحاسم : ” لا إكراه في الدين”، دليل ينفي الإكراه في كل أحواله نفيا عاما لا يخصصه إلا دليل أقوى منه او في رتبته..
بل كان الخطاب للنبي ﷺ حاسما فلم يرسل ليفرض على الناس عقيدة أو ليكرههم على اعتناقها، بل ما هو إلا مذكر ومبلغ وبشير ونذير.. وليس أبدا مسيطرا : “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر”، ولا جبارا : “وما أنت عليهم بجبار”، ولا مكرها لهم على الإيمان: “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”.
لكل هذا جعل الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الحرية مقصدا من مقاصد الشريعة ( مقاصد الشريعة الإسلامية، ص:139) وجعل « الاعتداء على الحرية من أكبر أنواع الظلم » (ص:145).
والحرية في الإسلام حق فطري للإنسان، يستمده من تكريم الله له : “ولقد كرمنا بني آدم” ومن تزويده بالعقل والقدرة على التمييز، فهو بذلك حق سابق على تكليفه، بل لا تكليف ولا مسؤولية ولا جزاء بدون حرية..
ولذلك جعل الأصوليون من شروط التكليف : الاختيار، ويعنون به حرية الإنسان في اختياره أن يفعل أو لا يفعل، وفي الحديث الصحيح عند الطبراني والحاكم وغيرهما عن ثوبان : “وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”، فإذا أكره الإنسان فلا مسؤولية ولا تبعة.
ومن الملفت للنظر أن عمر بن الخطاب عبر عن كون الحرية حقا فطريا للإنسان بحكم ولادته في قولته المشهورة : “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”.
إن الحرية بهذا العمق الرباني الواسع وذاك الفهم الراقي من سلف الأمة هي إحدى المقومات الأساسية للشورى، وإحدى الدواعي الكبرى لإرسائها، وما الشورى في حقيقة الأمر إلا تطبيق عملي لحرية الفرد في المشاركة برأيه وعمله في بناء مجتمعه، كذلك ما هي إلا وسيلة للمساواة بين الجميع في الحرية…
إننا نستنتج هنا أمرين في غاية الأهمية :
الأول: أنه لا شورى بلا حرية.. إذ كيف يمكن أن يدعي كيان أو تدعي هيئة أنها تطبق الشورى إذا كان الفرد لا يملك الحرية الكاملة في التعبير عن رأيه والجهر به والدفاع عنه دون أي ضغط أو إرهاب نفسي أو فكري؟
والثاني: أنه إذا كانت الحرية حقا للإنسان سابقا على تكليفه، فإنه بالتالي سابق على تنظيم المجتمع وعلى الشورى، فلا يجوز أن تكون الشورى بأي حال من الأحوال وسيلة ولا مبررا للتضييق على حرية الفرد مادامت لا تعتدي على حرية الآخرين..
في حال الحديث عن الحرية ينبغي أن يكون المفهوم له علاقة بالواقع
وبعبارة أخرى إذا كان من بين معاني الشورى تنظيم الحرية فيجب ألا ينتهي بها الأمر إلى إلحاق الضرر بهذه الحرية، فضلا عن إلغائها.. لأننا بذلك نكون قد ألحقنا الضرر بإحدى المعاني الكبرى لوجود الإنسان وتكليفه. وكأننا ظمآى للحرية.. يطول الحديث عنها دون أن ندري وطوله تعبير عن طول شوقنا لها……..!!
على أية حال الحديث عن الحرية ينبغي أن يكون حديثا عن المفهوم وعلاقته بالواقع، حديث عن إفرازات لتراث يستبطن قدرا هائلا من المقويات التي يقف الواقع المستبد أمامها يمنعها من الحركة بانسيابيتها المعتادة في حياة الأمة..
وفي هذا الإطار ينبغي الإجابة على مجموعة من الأسئلة التأسيسية التي يتضح معها المفهوم وضوحا لا لبس فيه أو بعده، بما يسمح لإدارة نقاش جاد حول تجلياته على مستويات سياسية واجتماعية بل وحتى عقائدية… ومعرفة حدوده وخطوطه الحمراء إن كان له خطوط حمراء من الأصل.