نزلت سورة البينة (لم يكن الذين كفروا) على النبي
ﷺ في مكة المكرمة وذلك بناء على القول المشهور من جمهور المفسرين، وسميت السورة حين نزلت بسورة “لم يكن الذين كفروا”، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي
ﷺ قال
لأبي بن كعب: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك: لم يكن الذين كفروا قال: وسماني لك؟ قال: نعم. فبكى»، قال ابن عاشور: فقوله: “أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا” واضح أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة لم يكن بالاقتصار على أول كلمة منها، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء
الكتاتيب. ومن أهم مقاصد هذه السورة العظيمة أنها كشفت عن حالة العناد والتمرد في تصرفات أهل الكتاب على دعوة النبي
ﷺ بعد أن ظهرت على يديه البينة وسطعت أنواره بما عرفوا من الأوصاف المذكورة في كتبهم للنبي المبعوث آخر الزمان وكانوا ينتظرون بعثته، فلما بُعث كفروا وعاندوا. كما أسست السورة أهم
أركان الإيمان في جميع أعمال المسلم التي يقصدها للتقرب إلى الله تعالى في صورة العبادات، وهو إخلاص النية والتوجه إِليه سبحانه في جميع الأَقوال والأَفعال مائلين عن كل دين يخالف دين التوحيد. وكان مما يقتضيه حكمة الله ومشيئته وعدله أن المعاند للحق والبينة، المصر على الكفر والشرك من أهل الكتاب أن يجازيهم الله تعالى بالنار وهي دار العذاب. كما أنه وعد الله تعالى للطائعين المؤمنين جنات عدن بما فيها من الفضائل الكبيرة التي لا تخطر على أي قلب بشر.
ما هي البينة ؟
وصفت السورة عادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى أنهم لن يؤمنوا بنبي أو رسول، فيتركوا ما كانوا عليه من الضلال والفتن ومحاججة الحق حتى تأتيهم البينة، يقول الله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣﴾. وهذه البينة هي الرسول ﷺ حين يأتيهم بالقرآن الكريم الحجة الواضحة على أهل الكتاب المعاندين، فيرجعوا عن الكفر وأعمال الكفر، ويذعنوا للتوحيد الخالص بأن يسلموا، لذلك وقع لفظة (رسول من الله) في موضع البدل، وقد كانت اليهود قبل الإسلام يهددون جيرانهم من العرب ويقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم!
وكان أهل الكتاب يستفتحون بالنبي
ﷺ قبل مبعثه، وكانوا «ويقولون: اللهم افتح علينا، وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، وذلك لما يجدونه في التوراة والإِنجيل من نعوته وأَمارات بعثه، وكان المشركون يسمعون ذلك منهم فاعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصر الله لهم على أَعدائهم، وكانوا يسألون اليهود عن رسول الله
ﷺ وهل هو النبي المذكور في كتبهم»[1]. ثم لما جاء النبي
ﷺ بما كانوا يعرفونه ويقرونه كفروا عنادا، فكان منهم التناقض، وحق أن يتعجب من هذه الصنيعة، فالبينة التي لطالما ينتطرونها موجودة فعلام بكفرون بها وينفرون منها. جاء في التفسير المنير: فقد أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله، حتى يأتيهم الرسول
ﷺ وما جاء به من القرآن، فإنه بين لهم ضلالتهم وجهالتهم، ودعاهم إلى الإيمان. وكانت البينة التي جاء بها النبي
ﷺ وهي
القرآن الكريم فإن النبي وأصحابه يتلو ما يتضمنه من الآيات والذكر الحكيم على مرأى ومسمع المشركين من أهل الكتاب وغيرهم لما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين الساطعة. بل في هذه البينة الحق الصريح الذي يبين لأهل الكتاب والمشركين كل ما يشتبه عليهم من أمور الدين، وفيها الآيات والأحكام المكتوبة المستقيمة المستوية المحكمة، دون زيغ عن الحق، وإنما هي صلاح ورشاد، وهدى وحكمة، كما قال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42] وقال سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ ﴾ [الكهف: 1-2]. وكان رسول الله
ﷺ يتلو عليهم القرآن عن ظهر قلب ولا يقرأه من صحف فمعنى يتلوا صحفا يتلو ما هو مكتوب في صحف والقرينة ظاهرة وهي اشتهار كونه
ﷺ أميا. [التحرير والتنوير]. وهذه البينة على غرار وضوح مضامينها وآياتها عند أهل الكتاب، إلا أن أهل الكتاب قد تفرقوا عليها، واتخذوها عوجا، وهذا ما تدلنا الآية الكريمة: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4]. قال الزحيلي رحمه الله: لا تتأسف يا محمد على الكتابيين، فإن تفرقهم واختلافهم لم يكن لاشتباه الأمر عليهم، بل كان بعد وضوح الحق، وظهور الصواب، ومجيء الدليل المرشد إلى الدين الحق والبينة الواضحة وهو محمد
ﷺ الذي جاء بالقرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته ووصفه، فلما بعث الله محمدا، تفرقوا في الدين، فآمن به بعضهم، وكفر آخرون، وكان عليهم أن يتفقوا على طريقة واحدة، من اتباع دين الله، ومتابعة الرسول الذي جاءهم من عند الله، مصدقا لما معهم. ولهذا نهى الله تعالى المؤمنين اتباع طريق أهل الكتاب وعادتهم من منازعة الحق البين، ولبس الباطل على الناس، يقول الله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران 105/ 3]. وقد أعذر من أنذر، كما قال تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة} [الأنفال 42/ 8]. وجاء في الحديث المروي من طرق: «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن
النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي». فإذا اتضح الحق فالواجب على المسلم امتثال الحق واتباعه وترك الاعتذار والتلاعب فإن ذلك من العناد الذي يمقته الله تعالى، لذلك ذم الله هذا الخلق ووبخ أهل الكتاب عليه. وقد رأى بعض المفسرين: أن البينة الثانية هنا هي مجيء عيسى عليه السلام، وتختلف عن البينة الأولى لأن المراد منها محمد
ﷺ. وهو ما اختاره ابن عاشور وفهم ما يشير إليه من الرازي، وذلك في قوله: المقصود من هذه الآية تسلية محمد
ﷺ، أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبب وعبادة العجل إلا بعد ما جاءتهم البينة، فهي عادة قديمة لهم[2].
إخلاص العبادة والعمل ثم أكدت
سورة البينة على المطلوب من جميع الخلق وهو إقامة الدين حنفاء لله غير مشركين به، وهذا مكمن الإخلاص في هذه العبادة، وهو المقصد الأعظم الذي من أجله بعث الله الرسل والأنبياء وأنزل عليهم الكتب والبينات، ويقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وهذه العبادة التي أمرهم الله بها لا تكون صحيحة وكاملة إذا تخلت من الإخلاص، وذلك قال الله تعالى آمرا وتذكيرا لأهل الكتاب وللمؤمنين: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]. والمراد أنه لم يؤمر هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا في شأن الحق، والحال، أنهم لم يؤمروا إلا بعبادة الله- تعالى- وحده، مخلصين له الطاعة، ومائلين عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، مؤمنين بجميع الرسل بدون تفرقة بينهم، إذ ملتهم جميعا واحدة، ولم يؤمروا- أيضا- إلا بإقامة الصلاة في أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين، وبإيتاء الزكاة التي تطهرهم وتزكيهم. وَذلِكَ الذي أمرناهم به من إخلاص العبادة لنا، ومن أداء فرائضنا دِينُ الْقَيِّمَةِ. أى: دين الملة المستقيمة القيمة، أو دين الكتب القيمة[3]. والإخلاص: التصفية والإنقاء، أي غير مشاركين في عبادته معه غيره. وغاية التذكير من هذه الآية الكريمة: توجيه الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له، فلم يخلق الله الخلق إلا للعبادة، فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة، فيكون التذكير بها ضروريا، والاعلام بأن كل ما عداها تضييع للزمان، وفائدة العبادة: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. ثم إن مهمة الأنبياء منحصرة في أمرين: عبادة الله، وهداية الخلق. وهناك غرض ثالث آخر من ذكر هذه الآية: وهو بيان سوء صنيع الكفار، حيث تركوا عبادة الله، مع أن خلقهم ما كان إلا للعبادة[4].
[1] «التفسير الوسيط – مجمع البحوث» (10/ 1980).
[2] «التحرير والتنوير» (30/ 479).
[3] «التفسير الوسيط لطنطاوي» (15/ 472).
[4] «التفسير المنير – الزحيلي» (27/ 51).