سورة المرسلات من أوائل السور نزولا على النبي ﷺ بمكة المكرمة، ولقد نزلت والنبي ﷺ مختف في غار بمنى مع بعض أصحابه، ففي حديث عبد الله بن مسعود في «الصحيحين» قال: “بينما نحن مع رسول الله ﷺ في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبي ﷺ: «اقتلوها» فابتدرناها، فذهبت، فقال النبي ﷺ: وقيت شركم، كما وقيتم شرها”. وهذه السورة عظيمة اشتملت على حقيقة البعث يوم القيامة وتصوير أحداثه، وما يأتي بين يدي الساعة من أشراط، والمقال يتناول جزءا من فوائد سورة المرسلات.
مناسبة سورة المرسلات بما قبلها
جاء في كتاب (التفسير الوسيط – مجمع البحوث): صلتها بما قبلها:
أَن الله قد ذكر في آخر سورة الإِنسان ظرفًا من تهديد الكفار بالعذاب في الآخرة “إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا” وأَتي في أَول سورة (والمرسلات) بمزيد من الوعيد والعذاب للكفار حتى استغرق هذا أَكثر السورة، وذلك من أَولها إِلى الآية الأَربعين، فكأَن هذه الآيات من سورة (المرسلات) امتداد لآخر سورة الإِنسان، كما أَن سورة الإِنسان قد ضم أَكثرها جزاءَ المحسنين بدءًا من الآية الخامسة “إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأَسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا” إِلى الآية الثانية والعشرين: “إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا”.
وفي سورة المرسلات جاءَ ذكر ثواب المتقين في صورة مجملة: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُون …) فالسورتان تلتقيان في وعد المؤمنين ووعيد الكافرين.
ما هي فوائد سورة المرسلات؟
وقد اشتملت سورة المرسلات على مجموعة من الفوائد منها ما يأتي:
1- سورة المرسلات من السور الخمس التي قال فيها رسول الله ﷺ: “شيبتني هود وأَخواتها” وهذه السور هي: هود، والواقعة، والمرسلات، والنبأ، والتكوير؛ وذلك لما في تلك السور من إِظهار عدل الله المطلق وبطشه، وشديد عذابه، وقوة سلطانه.
2 – نزلت سورة المرسلات في ليلة الجن، قال ابن مسعود: نزلت تلك السورة على رسول الله ﷺ ليلة الجن ونحن نسير معه حتى أَوينا إِلى غار بمنى فنزلت، فبيمنا نحن نتلقاهم منه وإِن فاه لرطب بها -إِذ وثبت حيَّة فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وقيتم شرها كما وقيت شركم) وهذا الغار يعرف بغار المرسلات. (صحيح مسلم)
3- سورة المرسلات هي آخر سورة قرأ بها النبي ﷺ في صلاة المغرب، قبل أن يلقى ربه، ولم يصل لهم بعدها صلاة المغرب إماماً.
جاء في الصحيحين عن ابن عباس: أن أم الفضل بنت الحارث سمعته يقرأ {والمرسلات عرفا} فقالت: يا بني ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله ﷺ يقرأ بها في المغرب.
قال الزهري في روايته عن ابن عباس عن أمه أم الفضل بنت الحارث: خرج إلينا رسول الله ﷺ وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب، ثم قراً بالمرسلات، فما صلى بها بعد حتى لقي الله. (أخرجه الترمذي بسند صحيح).
4 – جاءَ أَول سورة المرسلات مبينًا لعظيم قدرة الله وأَنه هو -سبحانه- المالك لجميع خلقه، يرسل ما شاءَ على من يشاء، وينشر من شاءَ في فسيح ملكه وملكوته، وينزل الرحمة والآيات بوساطة الذين يريدهم ويختارهم من خلقه على من اصطفى من عباده وارتضاهم لرسالته: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا … )
5 – جاءَت السورة بعد ذلك تهدد المكذبين وتبين لهم أَن الله أَباد وأَهلك قومًا بعد قوم من الضَّالين المكذبين: (أَلَمْ نُهْلِكْ الأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الآخِرِينَ ….. ).
6 – أَبانت السورة الكريمة أَن أَمر العباد إِليه وحده من أَول خلقهم إِلى نهاية آجالهم:
(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ):
7 – ذكرت السورة بعضًا من نعم الله على عباده، ثم أَنذرات من كذب منهم بالعذاب الشديد:
(أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا). إلى قوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).
وكان ختام السورة ضربًا من إِرخاءِ العنان للمكذبين المجرمين وإِمهالهم ليتمتعوا ويأْكلوا ثم تكون عاقبتهم الويل والثبور والهلاك والبوار (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)
وجوه تخويف الكفار في سورة المرسلات
هدد الله تعالى الكفار بقوله: {ألم نهلك الأولين، ثم نتبعهم الآخرين} أي: ألم نهلك الكفار المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به من الأمم الماضية، من لدن آدم عليه السلام كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم إلى زمن محمد ﷺ، بالعذاب في الدنيا، ثم نتبعهم بأمثالهم وأشباههم.
وقد تعددت أنواع التخويف للكفار في سورة المرسلات وهي عشرة أنواع:
تخويف الكفار بالعذاب وهم في الدنيا
1- النوع الأول من أنواع التهديد: أنه أقسم في الآيات السابقة على أن اليوم الذي يوعدون به، وهو يوم الفصل، واقع.
2- النوع الثاني من أنواع التهديد: أنه أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم، وأخبر أنه يفعل مثل ذلك في الأقوام المتأخرين، فلا بد وأن يهلكهم أيضا، لتماثلهم مع المتقدمين في علة الإهلاك، وهي التكذيب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر.
أن هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين، فعمم الحكم جميع المجرمين.
ثم أكد تعالى التخويف بقوله: {ويل يومئذ للمكذبين} والمراد أن مآلهم في الدنيا الهلاك، وفي الآخرة العذاب الشديد. وهؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا، فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدة لهم يوم القيامة.
3- النوع الثالث من أنواع التهديد: التذكير بعظيم إنعامه عليهم، والتحذير من مغبة كفران النعمة وإنكار إحسانه إليهم، وهو خلقه الإنسان من النطفة الضعيفة الحقيرة، ثم إيداعها في مكان حريز وهو الرحم إلى أن يتم تصويره ويحين وقت ولادته، وذلك لا يمكن من غير قادر علي، فنعم القادر والمقدر وهو الله تعالى.
ووجه التخويف من جانبين كما تقدم:
الأول- أنه كلما كانت نعمة الله عليهم أكثر، كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، وكان العقاب أعظم، لذا قال عقيب هذا الإنعام: {ويل يومئذ للمكذبين}.
الثاني- أنه تعالى ذكرهم كونه قادرا على الابتداء، ومن المقرر الظاهر عقلا عند البشر أن القادر على الابتداء، قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، قال في حقهم: {ويل يومئذ للمكذبين}.
4 – النوع الرابع من أنواع التهديد: أنه تعالى بعد أن ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس، ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق، وذكر ثلاثة أشياء: هي الأرض التي هي كفات الأحياء والأموات، والجبال الرواسي الشامخات، أي الثواب على ظهر الأرض فلا تزول، العاليات، والماء الفرات الذي هو الغاية في العذوبة.
تخويف الكفار بكيفية عذاب النار
5- النوع الخامس من أنواع التهديد: {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون} أي يقال للكفار من قبل خزنة جهنم: سيروا واذهبوا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب الأخروي في الدنيا. ووصف هذا العذاب بأربع صفات وهي: {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب (30) لا ظليل ولا يغني من اللهب (31) إنها ترمي بشرر كالقصر (32) كأنه جمالت صفر (33)}.
وهذه الأوصاف هي:
- أن عذاب النار يتشعب ظله أو دخانه إلى ثلاث شعب، كما هو شأن الدخان العظيم إذا ارتفع تشعب.
- وليس كالظل الذي يقي حر الشمس، ولا يدفع من لهب جهنم شيئا
- وترمي النار بشرارات، كل شرارة كالقصر
- هذا النار كالجمالات الصفر: وهي الإبل السود، والعرب تسمي السود من الإبل صفرا مما يدل على أن تلك النار شديدة الاشتعال كثيفة، متتابعة، سريعة الالتهاب.
6 – النوع السادس من أنواع التخويف، بطلان الحجة، وفقد العذر، والعجز قال الله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون} والمراد بهذا النوع بيان أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما ارتكبوا من المفاسد والقبائح والمنكرات، وأنه لا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم. وبيان هذا النوع للدلالة على شدة أهوال القيامة.
7- النوع الثامن-مضاعفة حسرة الكفار، وتزايد غمومهم وهمومهم، وهو من جنس العذاب الروحاني، فإنهم إذا وجدوا ما أعد الله للمتقين المؤمنين من أنواع السعادة والكرامة، تحسروا واغتموا، وكانت حالهم في غاية الذل والهوان والخزي.
8- والنوع التاسع- وعيد الكفار وتهديدهم إذ يقال لهم في الدنيا: كلوا وتمتعوا زمنا قليلا، فإنكم مجرمون مشركون بالله، ومجازون بسوء أعمالكم، فقد عرضتم أنفسكم للعذاب لأجل حب الدنيا، والرغبة في طيباتها وشهواتها القليلة الفانية بالنسبة لتلك الآفات العظيمة التي تلقونها يوم القيامة.
والنوع العاشر-توبيخهم وتقريعهم على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب الشديد، وعدم انقيادهم لطاعة الله، وعدم أداء فريضة الصلاة، فإذا أمروا بها لم يؤدوها.