البيئة والطبيعة والمحيط مجالات ومدارك للنظر في خلق الله القدير، ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [ آل عمران، 191].
حوى القرآن الكريم سورا بأسماء حيوانات نرتفقها، أو ننتفع بها، أو نعتبر بها مثل البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل والعنكبوت، كما احتوى أسماء سور لظواهر فلكية هي محلّ لتدبر الكتاب المنظور، ففيه سور النجم، الشمس، الضحى، الليل، الفجر، الذاريات، والرعد، إضافة إلى أسماء سور الشجر كالتين، وتوالت الآيات الآمرة بالنظر والتدبّر في النِعم المبثوثة في كل ما ذرأ الله وبرأ على هذه البسيطة: ﴿ وما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ [النحل، 13 ]، ولأجل ذلك جاءت الأمارات والإشارات للمجال البيئي تدبّرا ونظرا واعتبارا، وأمرا بالارتفاق والتسخير والتطويع، وتحقيق الميزان الكوني.
ترتبط البيئة عندنا بالارتفاق والانتفاع، وهو مفهوم يحيل على المرافقة وتذللّ الكلّ لله رب العالمين، فالجميع ينتسب إلى المخلوقية والأخوة الكونية:﴿ وما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ﴾ [الأنعام، 38]، كما أن البيئة مجال للأنس العبادي: ﴿ يا جبالُ أوّبي معه والطير﴾ [سبأ، 10]، وبعد ذلك كانت البيئة مجالا للجمال والفن، والانبهار بخلق القدير العليم، ﴿أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها ومالها من فروج﴾ [ق،6 ]، كما تضمّن الوعد الأخروي أيضا صورا محلّقة في الجمال المنشود، ففيه الوعد بالجنات الخضراء، والحوض النبوي، وأنهار المياه الرائقة، والطيور الغنّاء، والشجر الوارف، والظل الظليل.
وقد اعتضد الإرشاد القرآني بالتجسيد النبوي في الاهتمام بالبيئة والمحيط، وذلك في إنشاء المحميات في حرم مكة والمدينة، وتحريم عضاد الشجر، والصيد، فالجميع آمن في حرم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
كما نجد في السنة دعوة ملحاحة للتشجير والتخضير: ” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها” [البخاري في الأدب المفرد، 479 ]، وندبا إلى إحياء الموات: “ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ” [البخاري، 2320]، وجاء الوعيد لكل منتهك ومضار للمحيط في منع قطع الشجر: “من قطع سدرة صوّب الله رأسه في النار”[أبو داود، 5239].
وللتدريب على ارتفاق البيئة وجمالية المحيط جاءت الأوامر المرشدة والموجبة لكل ما يحصّن ذلك، ويمنع ما يعود عليه بالسلب أو النقصان أو التشويه، فكان الأمر بالنظافة:” إن الله طيّب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، فنظفوا أفنيتكم، ولا تشبّهوا باليهود ” [الترمذي، 2799]، وجاء الأمر بتجميل أماكن العبادة:” عُرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يمُاط عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تُدفن”[ مسلم، 553 ]، وعن عائشة :”أمر رسول الله ﷺ ببنيان المساجد في الدور، وأمر أن تُنظف وتطيّب”،[أحمد، 26386]، واعتبر الشارع سلامة المحيط من دلائل الإيمان المتجسّد سلوكا حميدا في إماطة الأذى عن الطريق ” الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق”[مسلم، 58 ].
ولأجل ذلك حرّج الشرع في تلويث الهواء والماء، إذ هو من الفساد المنهي عنه في قوله تعالى:﴿ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ﴾[ الأعراف،56] والأمر أشد قبحا في الملاعن الثلاث، وهي قارعة الطريق، والظل، ومورد الماء، إذ الناس شركاء في هذه المرافق.
بل إن العناية بلغت مبلغها في منع الإضرار بالحيوان، ففي الحديث: ” من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها، سأله الله عن قتله، قيل: يا رسول الله، وما حقّها؟ قال: أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي بها” [ النسائي، 4445]، ولهذا مُنع اتخاذ البهائم غرضا، وكرُه الاغراق في الصيد واللهو لما فيه من الشطط على المجال والجوار.
والفقه في هذا المجال البيئي قائم على القاعدة المشهورة ” لا ضرر ولا ضرار”، وقد تجلى التطبيق الفقهي في العناية بالبيئة والمحيط في سياسات الخلفاء الراشدين، حتى في تدبير الشؤون الحربية، ففي عهد أبي بكر لجيوش الشام : “ولا تقطعوا مُثمرا، ولا تخربوا عامرا، ولا تذبحوا بعيرا ولا بقرة إلا لمأكل، ولا تُغرقوا نخلا، ولا تحرقوه“، ومن سياسة عمر بن الخطاب في تهيئة المجال قولته:” لو أن بغلة عثرت بالعراق لسألني الله لمّ لم تسو لها الطريق يا عمر”.
وقد سطّر الفقهاء روائعهم في تطبيقات فقهية في الاحتساب على الأسواق والدواب والصيد، وتصريف المزابل وبقايا بيوت الخلاء، وتجميل أماكن العبادة في التطييب والتبخير، وأحكام المطاهر في المساجد، مما يُعد من مفاخر الحضارة الإسلامية.
إن المسلمين مأمورون شرعا بالاعتناء بالبيئة، والاهتمام بالمحيط تدبيرا وتنظيفا وتجميلا وإغناء، ولهذا يجب الحضّ والتواصي على إحياء الوعي بالبيئة في مناهج التعليم في مقررات إجبارية ينشأ عليها الصغير ويشبّ عليها الكبير، إذ هي من حقول العبادة المنسية.
كما يجدر بالمسلمين التعاون في إنفاذ الاتفاقات الدولية البيئية وتثمينها، والدخول في صياغتها، والتعاون على صلاح الأرض، وقراءة تجربة أحزاب الخضر والإفادة منها، وإنشاء الجمعيات والربط والغرف المهتمة بالبيئة والمجال الحيوي، والتحالف على تحريم وتجريم أسلحة الدمار الشامل.
وفي المجال الاستهلاكي يجب الكرّ على سلبيات النمط الغربي، وإذاعة ثقافة الاقتصاد في استغلال الموارد، وإشاعة ثقافة التدوير باستغلال النفايات المنزلية والصناعية والزراعية. إضافة إلى نشر الفلسفة التقليلية في العيش بالحد الأدنى من الحاجات، وتجربة الحياة في البراح بالعودة المؤقتة للحياة البسيطة.
إن التراحم بين الأجيال فرض عين، وذلك بترك الأرض صالحة للخَلَف، ونشر الوعي بأهمية البيئة في البرامج التربوية والإعلامية، وذلك بمبادرات تطبيقية في المدارس والحدائق والبراح العام، والتأكيد على التوسط والاعتدال في استغلال موارد البيئة وعدم إهدارها والإسراف فيها، والتحذير والترهيب من الإضرار بمقوماتها، إذ هي من المقاصد الكلية للشريعة الخاتمة.