ينطلق هذا المقال من حقيقة واضحة، وهي أن “التفاعل الحضاري” خيار لا مفر منه، بل هو “ضرورة” يقررها التاريخ، ويستدعيها الواقع..

وتأكيد هذه الحقيقة يأتي في مواجهة طرفين آخرين؛ يرى أحدُهما نَفْيَ هذا التفاعل، بل والتحذير منه؛ بينما يدعو الآخرُ إلى التبعية أو الذوبان أو التماهي بالكلية مع النموذج الذي ينبهر به، أي أنه يتجاوز “التفاعل” كموقف وخيار..

لكن “التفاعل” يقتضي أَخْذًا وردًّا، موافقةً ومخالفةً، ذاتًا متفاعِلة وذاتًا متفاعَلاً معها، أي وجود ذاتَيْن منفصلتين.. وهو، بالتالي، ليس ازدراءً للآخر وجمودًا عنه، كما أنه ليس التحاقَ ذاتٍ بأخرى وذوبانها فيها!

ويمكن القول بأننا أمام أمرين مهمين:

الأول: أن التفاعل الحضاري خيار مهم، وأمر مطلوب، وضرورة مقرَّرة.

الثاني: أن التفاعل هو الموقف المطلوب تجاه الآخر، بين موقفين آخرين مرفوضين؛ أي بين نفي الآخر وازدرائه وتسفيهه، وبين الانبهار به والذوبان فيه والانسحاق أمامه.

التفاعل ضرورة

أما أن التفاعل ضرورة، فتلك حقيقة لا نحتاج في إثباتها لكثير عناء، وإنما يكفي أن نقلِّب بضع صفحات من كتاب التاريخ، أو نشاهد دقائق معدودات من الزمن الحضاري؛ لندرك أن التفاعل ضرورة وليس ترفًا، وخيار مهم لا نافلة من القول!

ويكفي في إثبات هذه الحقيقة أن نشير إلى إنه إذا كان الإنسان لا يولد كاملاً دفعة واحدة، وإنما يبدأ نطفة فعلقة فمضغة.. إلخ، حتى يتكون مرحلة إثر مرحلة.. وإذا كان الإنسان يولد لا يعلم شيئًا، ثم تبدأ حواسه في النمو، وعقله في الإدراك حتى يستوعب ما حوله شيئًا فشيئا.. فإن الحضارات أيضًا تمرُّ بمثل هذه المراحل..

فالحضارة- وهي بتعريف موجز: مجمل حياة الإنسان المعنوية والمادية- لا تولد كاملة، ولا تنشأ دفعة واحدة.. ولهذا، فليس أمامها حتى تستكمل نموها، وتستوفي أجهزتها وأدواتها، إلا أن تستفيد مما سبقها، وتُراكِم على إنجازاتهم؛ حتى تصنع نموذجها الخاص بها، وتتكون لديها القدرة على الإبداع والتميز والسبق.

والحضارة الإسلامية ذاتها، ومع أنها في الجانب المعنوي، أي العقدي، نزلت من السماء، وجاءت وحيًا إلهيًّا لا دخل للبشر فيه؛ فإنها في الجانب المادي، أي العمران والتمدن، أفادت مما سبقها.. ونشأت تدريجيًّا؛ لأن الإسلام نزل في قوم لم يكن لهم عهد بالعمران إلا في صورة ساذجة، بخلاف مَن يجاورهم من الفرس والروم..

إذن، الحضارة- وخاصة في جانبها المادي، بل وحتى في بعض جوانبها المعنوية الفكرية- لا تولد كاملة، ولا تستغني عن الإفادة مما سبقها.. وهذا ما يجعل “التفاعل الحضاري” ضرورة لا نافلة، وخيارًا لا مفر منه..

“التفاعل” بين موقفين

أشرنا إلى أن التفاعل الحضاري يأتي في مواجهة موقفين متناقضين، هما: الانعزال والذوبان.

ولا شك أن دعوى الانعزال عن الحضارات الأخرى، والزعم بإمكانية الانكفاء على الذات والاستغناء بها طوال الوقت عن الآخرين، يُعدّ تصورًا طفوليًّا يكذبه التاريخ- كما ألمحنا- ويدحضه الواقع الذي نعيشه!

فليس ثمة حضارة بإمكانها أن تتصرف كما لو كانت تعيش وحدها في جزر منعزلة، لا تتفاعل مع أحد ولا يتفاعل معها أحد! فالإنسان مدني بطبعه، والحضارات تتفاعل بالضرورة!

وإذا كان من الصعب أن نتصور فردًا منعزلاً عما يحيط به، فكيف يَصدق هذا الزعم في شأن الحضارات؟!

وفي المقابل، فإن الذوبان والتماهي كليةً مع الحضارة المغايرة، لا يبدو الموقفَ الصحيح تجاه قضية التفاعل الحضاري؛ ذلك أن الحضارات مثل الإنسان، لكلّ منها شخصيتها وذاتيتها وعوامل تَميُّزها؛ فإذا التحقت حضارة ما بأخرى التحاقًا تامًّا، صارت في موقف التابع المقلِّد وفقدت شخصيتها وذاتيتها.. ولم نتصور حينئذ وجود تفاعل أو تحاور أو تواصل! لأنه هذا التفاعل أو التحاور أو التواصل إنما يقتضي وجود ذاتَيْن منفصلتين، لكن يقوم بينهما رابطُ اتصالٍ وتواصل، وآلياتُ تفاعلٍ وتبادل.. فإذا ذابت إحداهما في الآخرى، صرنا أمام حضارة واحدة لا حضارتين؛ وبالتالي تفقد كلمة “التفاعل” معناها!

السؤال التالي

وإذا تقرر عدم صواب موقِفَيْ الانعزال والذوبان؛ فإذا السؤال التالي بعد: سؤال “التفاعل الحضاري”، أي الانتهاء من وجوده كخيار ضروري لا مفر منه.. ينبغي أن يكون: سؤال ماذا نأخذ، وماذا ندع؟ وعلى أي معيار أو قاعدة نقرر المأخوذ والمتروك؟

لأننا قد نتفق في المبدأ، أي ضرورة التفاعل، ثم نختلف في التفاصيل؛ فيرى أحدنا أمرًا ما متفقًا مع ذاتنا الحضارية نافعًا لها، بينما يرى آخرون عدمَ اتفاق هذا الأمر معنا ولا إفادته لنا.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الاختلاف في التفاصيل أو في التطبيق أمر وارد ومشروع.. المهم أن نتقف في المبدأ، ثم ندع كل فرد يقرر ما يراه، إن كان الأمر فرديًّا، أو ندع مجموع الأمة يختار ما يراه إن كان الأمر مجتمعيًّا.. وهكذا.

وما دام واضحًا لنا معيارُ الأخذ والرد- وهو المحافظة على مقاصد الإسلام وكلياته وقيمه وفرائضه وأحكامه المجمع عليها- فلا بأس من اختلاف وجهات النظر فيما دون ذلك؛ بل الاختلاف حينئذ أمر مطلوب، حتى نكون أمام عقول متعددة، ونماذج متنوعة، وليس أمام قالب واحد أصم!

وقد أوجز لنا ابن رشد، قضية التفاعل الحضاري ومعيارها، وهو يتحدث عن أهمية دراسة التراث الفلسفي للسابقين، فقال: “يجب علينا إنْ أَلْفَيْنَا [أي وجدنا] لمن تقدَّم من الأمم السالفة نَظَرًا في الموجودات، واعتبارًا لها، بحسب ما اقتضته شرائطُ البرهان؛ أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم؛ فما كان منها موافقًا للحق قَبِلْنَاه منهم، وسُررنا به، وشكرناهم عليه؛ وما كان منها غيَر موافِقٍ للحق نبَّهْنا عليه، وحذَّرْنا منه، وعذرناهم”([1]).

إذن، علينا أن ننتبه لدعوى الانعزال الحضاري بزعم الاعتزاز بالذات! وأن نَحذر من الذوبان في الآخر، تحت تأثير الانبهار به!

وأن نسلك موقفًا وسطًا متزنًا يرتكز على “التفاعل”، لا التجاهل أو الانسحاق.. وعلى الإفادة، لا التعالي أو التصاغر!

ولننتقل إلى السؤال التالي لسؤال التفاعل؛حيث الانشغال بالقوعد والمعايير التي على أساسها نقرر ما نأخذ وما ندع.. وحيث الانشغال بمرحلة الإبداع بعد مرحلة النقل..


([1]) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ص: 30، سلسلة الذخائر، 2017م، تحقيق د.محمد عمارة.