يتكون الإنسان بوجه عام من قلب هو محل العاطفة، ومن عقل هو منبع الفكر، ومن جوارح هي أداة السعي والحركة؛ ولكل من ذلك غذاؤه ودواؤه وأساليب توجيهه وترشيده . والقلب، الذي هو محل العاطفة، لا ينفك عن الحاجة للوعظ؛ الذي يعني تقديم خطاب يعمل على قيادة النفس بالترغيب والترهيب حتى تستقيم على أمر الله تعالى، وتتخلص من نوازع الشر وموجبات الهلاك، وصولاً إلى الترقي بالقلب في مدراج الكمال والإحسان.

وهذا الوعظ هو أمر يحتاجه الإنسان، وبصفة مستمرة؛ إذ النفس دائمًا في حالة من المقاومة والمصارعة؛ مع ذاتها مرة، ومع الشيطان مرة أخرى.. وهي في هذه المواجهة أو هذا الصراع، تحتاج إلى معينات على سلوك طريق الله تعالى، والانخلاع من الهوى ومن اتباع وساوس الشيطان.. ولا يكون ذلك إلا بعمل قلبي نافع، يتكفل الوعظ بالدلالة عليه، والإرشاد إليه.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد أصحابه بالموعظة؛ ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ؛ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. فهو صلى الله عليه وسلم يتعاهدهم بالنصح والتوجيه، لكن لا يُكْثِر عليهم مخافة السآمة، وإنما يتخير الأوقات والأحوال المناسبة لذلك. وكان معاذ بن جبل يقول لصاحبه: اجلس بنا نؤمن ساعة.

غير أننا نلاحظ أن “الوعظ” في مسيرتنا وحاضرنا، قد أصابته أعطاب كثيرة، شأن بقية مجالات حياتنا الفكرية والدعوة؛ حتى فقد كثيرًا من دوره في التوجيه والإرشاد، وفي تهذيب النفس والترقي بها.

ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى أسباب إجمالية؛ لأن مسيرة الوعظ من الامتداد والتشعب بحيث تحتاج لتفصيل واسع جدًّا.. وإنما يكفي هنا أن نطلّ على ذلك بصورة إجمالية:

أولاً: عندما تشَّعبت مسيرة العلوم والمعارف في تاريخنا، ارتبط “الوعظ” بـ”التصوف” كسلوك وعلم، وانطبع على الوعظ ما أصاب التصوف؛ فقد تحوّل التصوف من حالة قلبية إلى علم له أفكاره ونظرياته؛ وكانت المشكلة عندما تأثر بالأفكار الفلسفية الوافدة، فيما عُرف بـ”التصوف الفلسفي”، مثل وحدة الوجود، والحلول والاتحاد.. فشُغل التصوف كثيرًا عن مهمته الأساسية ليدخل في متاهات فكرية.. ودخل معه في هذه المتاهات الوعظ!

ثانيًا: اختلطت أيضًا مسيرة الوعظ بالقصص، وتحديدًا القصص الوهمي أو الضعيف سندًا ومتنًا، بالإضافة إلى الإسرائيليات؛ بعد أن كان الوعظ يقوم به علماء وفقهاء.. والنفس بطبيعتها تبحث عن الغرائبيات، وتتأثر بالمبالغات.. فانطبع كل ذلك أيضًا على الوعظ!

وقد رصد ابن الجوزي هذا التحول قائلاً: “كان الوعاظ في قديم الزمان علماء فقهاء وقد حضر مجلس عُبَيْد بن عمير عبدُ الله بن عمر رضي الله عنه، وكان عمر بن عبد العزيز يحضر مجلس القاص، ثم خسَّت هذه الصناعة فتعرض لها الجهال؛ فبعد عن الحضور عندهم المميزون من الناس، وتعلق بهم العوام والنساء؛ فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع في هذا الفن”([1]).

ثالثًا: لا شك أن الانشغال بالوعظ، وهو عمل القلب، أمر مهم وضروري، كما أشرنا، لكن الاكتفاء به والمبالغة في ذلك كما لو كان الإسلام جاء ليصلح القلب فقط، لا ليصلح كيان الإنسان بأَسْره، ومناحيَ الحياة جميعًا.. هذا الانشغال، مع المبالغة فيه، أوقع أصحابه في مشكلات كثيرة، جعلتهم يضخِّمون هذا الجانب مع التهوين من الجوانب الأخرى، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع..

فرأينا مثلاً التهوين من شأن العلوم الشرعية أو الفكرية، بزعم أن أصحابها يتلقون العلم ميتًا عن ميت، أما أهل القلوب فيتلقون العلم مباشرة عن الحي، وهو الله تعالى! كما رأينا الجدل الذي شغل مساحات وطاقات كثيرة، ولا يزال، عن “الحقيقة” و”الشريعة”!! ثم كان الانقسام إلى مشتغلين بصور العلم لا قلب لهم، ومهتمين بالقلب لا علم لهم! مما جعل الشيخ محمد الغزالي يشتكي من هذا الانفصام قائلا: “من سوء حظ الثقافة الإسلامية فقهاء لا دراية لهم بعلم القلوب ونهج التربية، ومتصوفون صفر الأيدي من قوانين الشريعة وضوابطها! والراسخون في العلم سالمون من هذه الآفات، ومن يقرأ لابن تيمية وابن القيم والغزالي وابن الجوزي والرازي وغيرهم، يرى رجالاً على درجة رفيعة من جيشان المشاعر والاستبحار العقلي”([2]).

رابعًا: أن الاهتمام بالوعظ والمبالغة فيه، وعدم التزام طريق الإسلام الذي يدعو بوسطية إلى الجمع بين الدنيا والآخرة.. هذا الاهتمام أوجد سلوكًا من الزهد أضرَّ بأمرين: من حيث التصوير الجزئي للإسلام، ومن حيث الابتعاد عن الدنيا وتركها لمن لا يراعون فيها حقًّا ولا حرمة!

ولهذا خلص د. زكي مبارك إلى أن التصوف له جانب يخالف طبيعة الإسلام، أي جانب العزلة والتزهيد في الدنيا؛ فيقول: “ويمكن الحكم بأن ما في التصوف من: الدعوة إلى طهارة الباطن، وحب الخير، وبغض الشر، وما إلى ذلك مما يتعلق بخلوص النفس البشرية من خبيث الصفات؛ يرجع في جوهره إلى روح الإسلام. أما ما يختص بقطع العلائق مع الناس، والتزهيد في الحياة؛ فهو بعيد عن روح الدين؛ لأن الإسلام دين فتح وسيطرة، وهو يعد معتنقيه لأن يكونوا سادة؛ بخلاف التصوف فإنه يلبس أصحابه أرواح العبيد”([3]).

ولهذا نقول: لا سبيل إلى تقديم خطاب وعظي ناجح إلا من خلال عدة أمور أساسية؛ أهمها:

– الالتزام بالكتاب والسنة، والابتعاد عما لا يصح سندًا ومتنًا، وعن المبالغات وما قد يُقبل أن يكون سلوكًا فرديًّا لا منهجًا متبعًا.

– الموازنة بين حاجات الروح ومتطلبات البدن.. من خلال “الوسطية” التي تشكل سمة أساسية للإسلام، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.

– تقديم الوعظ من خلال رؤية الإسلام الكلية التي لا تفصل الدنيا عن الآخرة، ولا تهتم بواحدة على حساب الأخرى؛ وإنما تعد الدنيا مزرعة الآخرةِ، والآخرةَ دار جزاء وحساب.

– الاهتمام بالعلم والعمل معًا.. علمًا يقوم على ما ثبت وصح سندًا ومتنًا، ويهتم بالقلب اهتمامه بالعقل.. وعملاً ينبني على معرفة صحيحة، ويقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة.

– تخليص الوعظ، والتصوف، من الأفكار الفلسفية التي لحقت به، وأضرت كثيرًا بمسيرته، وحرفته عن المسار الصحيح.

– مزج الخطاب العقلي بالعاطفة، وتقديم الخطاب العاطفي من خلال علم منضبط.. حتى نزيل الانفصام بين فقهاء لا قلب لهم، ومتصوفة لا عقل لديهم.

– إذا تخصصت فئة في الخطاب الوعظي فينبغي عليهم ألا يحطّوا من شأن من ينشغل بخطابات أخرى، اجتماعية وسياسية، يحتاجها المجتمع وتنبع من الدين الذي يقدم رؤية كلية جامعة للعقل والقلب والجوارح.. بحيث تتكامل الخطابات وتتساند، ولا تتشاحن!.. فلكل خطاب ضرورته وأهميته، ولكل إنسان قدراته التي تناسب الاشتغال بهذا الخطاب أو ذاك.

بهذه الأمور وغيرها نعيد للخطاب الوعظي دوره المهم في تهذيب السلوك، وترشيد الخطوات، وفي دلالة الخلق على الله تعالى، وصولاً إلى “الإحسان“، الذي يمثل المنزلة العليا من الإسلام.


([1]) تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص: 111.

([2]) مائة سؤال عن الإسلام، الغزالي، 1/ 31.

([3]) الأخلاق عند الغزالي، د. زكي مبارك، ص: 84.