من المهم عند تناول موضوع ما، وقبل أن نتطرق إلى تفصيلاته وتفريعاته، والتي ربما ترهقنا بكثرتها وغناها، أن نتعرف على فلسفته؛ أي الجوهر أو الأساس الذي يقوم عليه، وتندرج تحته معانٍ كثيرة وفروع متشعبة. ومن هنا نتساءل: ما فلسفة الأسرة في الإسلام؟
وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال ستقابلنا معانٍ أو مقاصدُ كثيرةٌ يمكن أن تقال في هذا المقام؛ مثل: إعفاف النفس، أو إنجاب الذرية، أو تواصل الأجيال، أو تكوين المجتمع، أو إعمار الأرض.. غير أنني أريد أن أتحدث عن مقصد آخر، قد لا يُلتفت إليه، وهو، كما سنرى، يمثل “مقصد المقاصد” للأسرة، أو “الجوهر” الذي تندرج تحته سائر هذه المعاني وغيرها.. وقبل بيان ذلك، أرى أن نتطرق أولاً إلى مفهوم الأسرة.
في المعاني والدلالات
الأُسْرَةُ في اللغة: الدِّرْعُ الحَصِينَةُ، و: عَشِيرَةُ الرجلِ وأَهل بيته. و: الجماعة يربطها أمرٌ مشترك[1].
ومن جذر الكلمة أو ما يقاربها، تأتي كلمة: الأَسْر؛ بما فيها من معاني القيد والجمع؛ يقال جاءَ القومُ بأَسْرِهم: أي بِجَمِيعِهِمْ.
وتأتي كلمة: السرير؛ بما فيها من معاني الراحة والدعة، ومنها: سَريرُ العَيش: مستقرُّه الَّذِي اطمأنَّ عَلَيْهِ خَفْضُه ودَعَتُه.
وتأتي كلمة: السِّر؛ بما فيها من الكتمان.
وكلمة: السرور؛ وهو خلاف الحزن[2].
وهذه الكلمات تأخذ منها كلمةُ الأسرة بنصيب، من حيث القيم والمبادئ اللازمة لها؛ فالأسرة يلزمها كتمان على ما يُفضي كلُّ طرف فيها لصاحبه.. وهي تقوم على سَعْي كل واحد لإخال السرور على الآخر، وأن يحقق له ما يستطيعه من راحة ونعمة.. كما أن عقد الأسرة، أي الزواج، يقوم على التأييد لا التأقيت، فكأنّ كل طرف قد أَسَرَ صاحبَه؛ أَسْرًا بالمعنى الفقهي/ القانوني، وأيضًا بالمعنى الروحي/ الأخلاقي.
ولفظ الأسرة لم يرد ذكره في القرآنِ الكريم، كذلك لم يستعمله الفقهاء في عباراتهم فيما نعلم. والمتعارف عليه الآن إطلاق لفظ (الأسرة) على الرجل ومن يعولهم من زوجه وأصوله وفروعه. وهذا المعنى يعبر عنه الفقهاء قديما بألفاظ منها: الآل، والأهل، والعيال. وأما “أحكام الأسرة” أو “الأحوال الشخصية” فهو اصطلاح حادث، والمراد به: مجموعة الأحكام التي تنظم العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة[3].
وعلى هذا، يمكن تعريف “الأسرة” بأنها: تلك الرابطة التي جعلها الله تعالى لاجتماع الرجل والمرأة بالزواج، وتقوم على المودة والسكن، وتنشأ عن أصول (الآباء والأهل) وقد تنتهي إلى فروع (الأبناء).
فالرجل والمرأة طرفاها، والزواج وسيلتها، والآباء أصولها، والأولاد ثمرتها، والمودة والسكن أساسها، والتفاهم والتعاون مِدادها، والمجتمع مَصَبّها ومحيطها.
والأسرة، كما يقول د. الزحيلي، عماد المجتمع المسلم، والزواج أساس وجودها. والرجل قيِّم على الأسرة ومسؤول عنها، وللمرأة شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة وتحتفظ باسمها ونسبها[4].
فليست الأسرة كيانًا لإذابة شخصيتي الرجل والمرأة؛ وإنما لتقوية شخصيتهما.. وهي لا تلغي الفوارق بين الرجل والمرأة أو تضعها موضع الصراع؛ وإنما تجعلها في موضع الوئام والتكامل.
في الفلسفة والقيم
وإذا جئنا إلى أهم ما تنطوي عليه الأسرة من فلسفة، أو من جوهر، أو من “مقصد المقاصد”؛ فقد يجوز لنا أن نقول إن فلسفة “الأسرة” بالدرجة الأساس هي صياغة نموذج لمفهوم “الأمّة” وكيانها الممتد، في صورة مصغَّرة.. بحيث يحدث تأثُّر وتأثير بين الأسرة والأمة، فيما يتصل بالقيم والمقاصد والآداب.. فنرى قيم “الأسرة” شائعةً في الأمة، وقيم “الأمة” مكثَّفةً في الأسرة.. فتكون الأسرة “أمّة صغيرة”، وتكون الأمة “أسرة كبيرة”؛ ولا تسأل بعد ذلك عما يكون في المجتمع، وبالتالي في الأمة، من ترابط وتعاون وتفاعل وفاعلية.
وأما أهم القيم والمقاصد التي ترشدنا “الأسرة” إلى أن نُشيعها في “الأمة”، أو ترشدنا “الأمة” إلى أن نكثفها في “الأسرة”؛ فهي:
- التراضي: فالأسرة لا تتحقق إلا بعلاقة الزواج القائمة على شرط التراضي؛ طلبًا من الزوج، وقبولاً من الزوجة.. وكذلك الأمّة لا تتحقق فاعليتها إلا بما بين أطرافها، حكامًا ومحكومين، من علاقة التراضي؛ وإلا كان الجور والعسف، وكان سوء المآل في التسلط على حقوق العباد.
- العدل:فهو قيمة مطلوبة في الأسرة؛ من الرجل بين أزواجه، ومن الأبوين مع أولادهما؛ عدلاً في الماديات والمعنويات؛ من المأكل والملبس والمشرب، ومن الرعاية والاهتمام حتى في القُبلة.. وكذلك العدل قيمة مطلوبة في الأمة؛ فإن الأمم تنهض وتعمر بالعدل، وبغيره يكون سوء المنقلب.
- الحوار: ففي الأسرة حوار بين الرجل والمرأة والأولاد، بما يستديم التفاهم بينهم، ويُنشِّئ أجيالاً لها شخصيتها التي تؤهلها للتعامل مع الحياة بجدٍّ وفاعلية وإبداع.. وكذلك الحوار بين الأمة؛ فهو فريضة منشودة، ومطلب ضروري تُصان به البلاد، وتلتئم به الصفوف، ويُقطَع به الطريق على عوامل الشقاق والاختلاف.
- المسئولية: وهي في الأسرة نابعة من “القوامة” التي هي درجة في التكليف، تُفرَض على الرجل نظير ما متعه الله من مواهب للتعامل مع الحياة ومشاقها، وليست درجةً للفخر والتباهي من غير القيام بحقها!!.. والمسئولية في الأمة واجبٌ تفرضه أمانة الاختيار، على الحاكم؛ فهو قد اختير ليتحمل عن الناس المسئولية، وليس ليمتاز عنهم. وحينئذ، فإن على المحكومين واجب الطاعة، ومعاونة الحاكم على أداء أمانة المسئولية؛ والتي هم أيضًا شركاء فيها، وعليهم نصيب مفروض منها.
- المودة والرحمة: فلا تستقيم الأسرة من غير مودة ورحمة، يستبقي بهما الطرفان حسن العشرة ودوام الصلة؛ بما تستلزمه هذه العشرة وتلك الصلة من أخلاق العفو والصفح والتغاضي عن الزلات.. وكذلك الأمة؛ لا يستقيم حالها إلا بتوادٍّ وتراحم وتصافح بين أبنائها، لاسيما ممن يقدرون على إنفاذ سلطانهم؛ فإن العفو مع القدرة يكون أوجب وأعظم أثرًا.
بهذا، نرى “الأسرة” نموذجًا مكثَّفًا للأمة، و”الأمة” نموذجًا ممتدًا للأسرة.. ونرى القيم التي تشيع هنا وهناك قيمًا مشتركة، تصبّ جميعها فيما يُمتِّن العلاقات، ويُقوِّي النسيج، ويَزيد الفاعلية..