أخذ شهر رمضان حيزا كبيرا من اهتمام المسلمين منذ فرض الصيام، وحتى الآن، فهو شهر يعيد توثيق علاقة المسلم بالإسلام جملة وتفصيلا، ويرجعه إلى معين الإسلام الصافي من الأخلاق والشعائر، والالتزام الضميري الحر بهذا الدين، لذا كان الشهر يترك بصمته في المسلمين، لأن الالتزام به نابع من الأعماق، وليس نتاج قوة خارجية، فكان فراقه مؤلما، والشعور بالوحشة مع انقضاء الشهر موجع. وقد جاء وداع رمضان على عدة أشكال، فهناك من أطلق شحنات من العاطفة الإيمانية تكشف عن تأثره البالغ مع انتهاء الشهر، المشحون بالصيام والقيام والذكر وفعل الخيرات، وتنقية النفس والوجدان وبناء الضمير الواعي، وهناك من أدرك تأثير شهر رمضان التغييري في حياته وحياة المسلمين، بعدما حاصر الشهر السلوكيات والأخلاق السلبية، وفتح الباب واسعا أمام كل خير، وكشف عن مكنونه في النفس والناس، وهؤلاء أدركوا أهمية الشهر في تجديد التزام الأمة بدينها النقي، وإظهار تعاليمه السامية بما يليق بها من جلال وجمال وهيبة ورحمة، أما الاتجاه الثالث، فهؤلاء انطلقوا من الخير الذي بثه وكشف عن رمضان، ليطالبوا المسلم والمجتمع بالاستمرار على هذا النهج الراقي الذي تجلى خلال الثلاثين يوما من الصيام.
عاطفة فراق رمضان
احتفظ التراث الإسلامي لنا بالكثير من الكلمات التي تكشف عن التأثر العاطفي والوجداني مع وداع شهر رمضان، وكانت الكلمات ذات حمولة من العاطفة الصادقة، بعدما لامس الصيام قلوبهم، وأزال الصدأ من عليها، وكشف للقلب عن أسرار من القرآن الكريم وفي الكون، وكشف لهم حقيقة الحياة، وقوة الإرادة في الانتصار على شهوات النفس ومغريات الحياة وضغوطات المعاش.
- كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يُنادي في آخر ليلة من رمضان:”يا ليت شعري، من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه“، وَكَانَ “جَعْفَرٌ الصَّادِقُ” –رضي الله عنه- يَدْعُو فِي آخِرِ رَمَضَانَ فَيَقُولُ: “اللَّهُمَّ رَبَّ رَمَضَانَ مُنَزِّلَ الْقُرْآنِ، هَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَقَدْ تَصَرَّمَ، أَيْ رَبِّ فَأَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَتِي هَذِهِ أَوْ يَخْرُجُ رَمَضَانُ وَلَكَ عِنْدِي ذَنْبٌ تُرِيدُ أَنْ تُعَذِّبَنِي يَوْمَ أَلْقَاكَ.
- أما الحافظ “ابن رجب الحنبلي” وهو من كبار علماء وحفاظ القرن الثامن الهجري، فكان يقول: “يا شهر رمضان ترفَّق، دموع المحبين تدفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع تُرقع من الصيام ما تخرّق، عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يُطلق، عسى من استوجب النار يُعتق، عسى رحمة المولى لها العاصي يُوَفَّق” .
- أما الحافظ المؤرخ الواعظ “أبو الفرج ابن الجوزي” ، وهو من علماء القرن السادس الهجري، وكان من كبار وعاظ عصره، فكان دواعه لرمضان مؤثر، وكتب عنه رسالة مفعمة بالعاطفة أسماها “في وداع رمضان” وهي أول رسالة كتبت في وداع الشهر، ومما قاله في تلك الرسالة:
“فيا إخوتي:
قد دَنا رحيل هذا الشهر وحانْ.
فرُبَّ مؤمِّل لقاء مثله خانه الإمكانْ.
فودِّعوه بالأسف والأحزانْ.
واندبوا عليه بألسُن الأسى والأشجانْ.
السلام عليك يا شهر رمضان سلام محب أودى به القلقْ.
السلام عليك يا شهر ضِياء المساجدْ.
السلام عليك يا شهر الذكر والمحامدْ.
السلام عليك يا شهر زرع الحاصِدْ.
السلام عليك يا شهر المتعبِّد الزاهدْ.
أما في كتابه “التبصرة”، وهو من الكتب الشهير في الوعظ، فيقول فيه ” عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقى من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام“.
- أما ” محمد بن إبراهيم الوزير” وهو من كبر علماء السنة في اليمن في القرن التاسع الهجري، فله رسالة أدبية، بعنوان “مثير الأحزان في وداع رمضان“، وهي مخطوطة من ست صفحات.
تأثير رمضان
- كان وداع رمضان عند البعض، تنبيه لدور رمضان التغييري الاصلاحي في النفس والمجتمع، لذا كان الوداع تذكير بضرورة الالتزام بأخلاق الإسلام وسلوكياته الظاهرة والباطنة، والفردية والجماعية، والشعائرية التعبدية والأخلاق والتعاملات، فنجد الأديب الشيخ القاضي “علي الطنطاوي” يكتب في العام 1939، مقالا مؤثر في وداع رمضان في مجلة “الرسالة”، عن أثر الشهر في أخلاق الناس وتعاملاتهم، فيقول عن تأثيره في الأسواق:” كنت أراه في الأسواق، فالأسواق تعرض بضاعة رمضان وتفيض عليها روح رمضان، فتمحو الغش من نفوس أهلها محواً، ويملؤها خوف الله ورجاؤه، وتقف ألسنتهم عن الكذب، لأنها جرت بذكر الله واستغفاره، وهانت عليهم الدنيا، حين أرادوا الله والدار الآخرة، فغدا الناس آمنين أن يغشهم تاجر، أو يخدعهم في مال أو متاع.
- أما عن أثره في الأخوة بين المسلمين، فيقول: ” وكنت أبصر رمضان يؤلف بين القلوب المتباينة، ويجلو الأخوة الإسلامية رابطة المسلم أخي المسلم فتبدو في أكمل صورها فيتقابل الناس عند الغروب تقابل الأصدقاء على غير معرفة متقدمة فيتساءلون ويتحدثون ثم يتبادلون التمر والزبيب ويقدمون الفطور لمن أدركه المغرب على الطريق فلم يجد ما يفطر عليه”، ويقول عن دوره الأسري:” وكنت انظر إلى رمضان وقد سكّن الدنيا ساعة الإفطار، وأراح أهلها من التكالب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضم الرجل إلى أهله، وجمع الأسرة على أحلى مائدة وأجمل مجلس وأنفع مدرسة” فكان رمضان نفحة فردوسية تهب على المسلمين كل عام لتعطر حياتهم وتزكيها، فيقول: “وسحر رمضان؛ إنه السحر الحلال. إنه جنة النفس ونعيمها في هذه الدنيا، وإني لأقنع من جنات الفردوس أن تكون مثل سحر رمضان”.
- أما “أبو الفرج ابن الجوزي” في كتابه “التصرة” فيحذر من العودة للمعصية بعد رمضان، فيقول :” يَا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعَاصِي فِي شَوَّالٍ أَلِلشَّهْرِ احْتَرَمْتَ أَمْ لِرَبِّ الشَّهْرِ، وَيْحَكَ! رَبُّ الشَّهْرَيْنِ وَاحِدٌ..تَقُولُ أُصْلِحُ رَمَضَانَ وَأُفْسِدُ غَيْرَهُ وَعَزْمُكَ فِي رَمَضَانَ عَلَى الزَّلَلِ فِي شَوَّالٍ أَفْسَدْتَ رَمَضَانَ، إِذَا طَالَبْتَ نَفْسَكَ فِي شَوَّالٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَذَكِّرْهَا سَيَلانَ الْعَيْنِ عَلَى الْخَدِّ فِي اللَّحْدِ وَعَمَلَ الْبِلَى فِي الْمَفَاصِلِ لَعَلَّ الْكَفَّ يَكُفُ“.
- أما الأديب “احمد حسن الزيات” فيقول:”رمضان كان فى حياة أكثر الناس ثلاثين عيدا تبتدئ بليلة الهلال وتنتهى بيوم الفطر”، فـ “رمضان سنة لا شهر، ومصحة لا ملهى ، ورياضة لا متاع، تُروض فيه أنفسنا على الخير لتمرن عليه وتعالجها به من الشر لتبرأ منه، وليس الغرض من علاج النفس والجسم ، فيه أن ينقضى اثره بانقضائه ..فذلك يخالف حكمة الشارع من الصوم وجعله فريضة“.