هل يمكن أن يتعايش الإسلام والحداثة؟ هذا أهم وأبرز الأسئلة التي شغلت الإصلاحين والنهضويين العرب والمسلمين منذ نحو قرنين من الزمن. والجواب عليه، حسب كتاب “التنوير الإسلامي”، الصادر مؤخراً لمؤلفه كريستوفر دي بليج، هو بالإيجاب. فكثيراً ما اتُّهم العالم الإسلامي بالفشل في التحديث والإصلاح ومواكبة العصر.
واقع الحال أنه منذ بداية القرن التاسع عشر إلى اليوم، عرف المجتمع الإسلامي تحولاً حقيقياً في ثلاثة من مراكزه السياسية والثقافية – في الشرق الأوسط – نتيجة احتكاكه وتأثره بقيم وممارسات معاصرة، مثل تبني الطب الحديث، وإنهاء إقصاء ضد المرأة، وتطور الديمقراطية.
المؤرخ والصحفي البريطاني “دي بليج” يصف كيف أفرز اللقاء الأول للإسلام مع الحداثة، قبل قرنين من الزمن بعض النتائج الإيجابية وينظر إلى ذلك باعتباره عاملا يبعث على الأمل. ففي سنة 1798، شن نابوليون بونابرت حملته الشهيرة على مصر، بوابة الشرق، حملة تعددت أهدافها وتراوحت بين الجيوسياسي والاقتصادي والعلمي. وكان من نتائج هذا الاحتكاك بين الشرق والغرب أن تعرف المسلمون على كثير من جوانب الحضارة والعلوم وفنون الإدارة الفرنسية.
ويَعتبر الكتاب أن هذا الحدث التاريخي شكّل الدافع الحقيقي للتنوير الإسلامي، الذي يقصد به حركة التحديث والتجديد التي ظهرت في العالم الإسلامي مع بداية القرن التاسع عشر نتيجة التأثر والاحتكاك والإعجاب بما وصل إليه الغرب من تقدم فكري وعلمي وحضاري، حيث أحدثت تلك الحملة صدمة ثقافية وفكرية وحضارية في العالم العربي والإسلامي.
يركز “دي بليج” في كتابه على رد الفعل الإسلامي على التأثير الأوروبي خلال هذه الحقبة، وينجح في هدفه الرئيس، ألا وهو تسليط الضوء على شخصيات إسلامية بارزة، سياسية وثقافية وعلمية وعسكرية، تبنت جوانب من الفكر والتكنولوجيا الغربيين وشجعت عليها دون أن تفرط في تدينها. وتضم قائمة هذه الشخصيات كتاباً وأطباء وعسكريين وسلاطين.
ومن بين هؤلاء عبد الرحمن الجبرتي، وهو شيخ مصري وصفَ خليط الصدمة والانبهار الذي قابل به مواطنوه قدوم نابليون مرفوقاً بفريق من العلماء والخبراء. وكان الجبرتي قد نشأ نشأة دينية محافظةً، وكان يؤمن بأن تفوق الإسلام يفترض أن يضمن النصر للمسلمين في الحرب على الغزاة. غير أن إعماله العقل والتفكير جعله يعترف لاحقاً بالقوة النارية المتفوقة والأكثر فعالية التي كان يمتلكها الغزاة، وبالوزن الفكري للفرنسيين.
وفي اسطنبول، ردّ السلطان محمود الثاني على القوة المتنامية للقوى الغربية بمحاكاتها والنسج على منوالها، فكبح جشع وزرائه وسلطة علماء الدين. ومن خلال رفعه القيود على تشريح الجسم ودراسته، قاد الطب وعلم الصحة إلى علاج الطاعون في وقت مضت فيه عقود طويلة على تخلص أوروبا من هذا الداء.
وفي تلك الأثناء، استفاد الأمير عباس ميرزا، القائد الكاريزمي في بلاد فارس، من مساعدة الفرنسيين والبريطانيين في تحديث جيشه الذي كان يدار وفق أساليب القرون الوسطى. كما أرسل شباب بلاده للتعلم في بريطانيا؛ ومن بين هؤلاء شخص يدعى ميرزا صالح، كتب حول أسفاره ودوّن رحلاته وأصبح أول صحفي في بلاده.
المؤلف يرسم ملامح شخصيات أخرى باعتبارها نماذج لعبت دوراً في تحقيق التنوير الإسلامي؛ ومن هؤلاء جمال الدين الأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، وحسن العطار.. شخصيات تُظهر قصصها أن المسلمين كانوا حريصين على التعلم والتطور، وأن هذا التعلم والتطور لا يتنافيان مع الدين، وإنما منسجمان معه تمام الانسجام. قصص خدمت فكرة الكتاب الرئيسية التي يكشف عنها المؤلف “دي بليج” في المقدمة، ألا وهي محاربة التعميمات الجاهلة والمتعسفة حول عدم قدرة الإسلام على التجدد، والتأكيد على أن مثل هذه التعميمات إنما “تكشف عن الأشخاص الذين يقولونها أكثر مما تكشفه عن الإسلام”.
يركز دي بليج على ثلاثة أفكار رئيسة في الكتاب :
الفكرة الأولى هي أن العالم الإسلامي أو على الأقل البلدان الثلاثة التي يركز عليها في الكتاب (مصر وتركيا وإيران)، خطا خطوات مهمة نحو التحديث السياسي والتكنولوجي خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ومثال ذلك أن إسطنبول تحولت في وقت قصير جداً ما يشبه سوقاً كبيرة من أسواق القرون الوسطى إلى مدينة حديثة شبه صناعية بشوارع مضيئة، وقطارات “ترام”، واختناقات مرورية، كما أن الطالبات التركيات تخرجن من الجامعات التركية بعد فترة غير طويلة على الوقت الذي بدأت فيه نظيراتهن يتلقين الشهادات الجامعية في بريطانيا.
الفكرة الثانية هي أن محاولات الإصلاحيين السياسيين في الشرق الأوسط لمقارعة الغرب واللحاق به كثيراً ما كانت تعرقَل وتؤخَّر بسبب الربط الذي يتم في أذهان كثير من شعوبه بين عملية التحديث تلك والأطماع الاقتصادية والدبلوماسية الغربية. ذلك أن الغرب قلّما كانت تحرِّكه النوايا الحسنة، ولم يكن دافعه شيئاً آخر سوى المصلحة الذاتية. وهذه العلاقة جعلت المسلمين الراغبين في التحديث دائماً يُرموْن بتهم الخيانة والعمالة وبأنهم موالون لقوى أجنبية!
أما الفكرة الثالثة فيُظهر فيها المؤلف كيف أن تدخل القوى الغربية، ساهم في إضعاف المؤسسات الديمقراطية في العالم الإسلامي وأصابها بالهشاشة. وقد تكرر هذا النسق عدة مرات.
وفي الفصلين الأخيرين من الكتاب، يلاحظ القارئ تحولاً مفاجئاً في وتيرة النص، حيث يستعرض المؤلف بعجالة تعاملات البلدان الإسلامية مع القوى الاستعمارية الغربية خلال تلك القرن العشرين. محاولة نجح فيها عموماً، على الرغم من صعوبة الموضوع الذي يطرقه، وكان هدفه هو إظهار لماذا تدهورت العلاقات بين المسلمين والغربيين لاحقاً. فقد أصبحت السياسات الغربية أكثر جشعاً وخبثاً، لاسيما خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، وتسببت في رد فعل حاد في العالم الإسلامي، حيث أثارت غضب العامة والخاصة على حد سواء.
المؤلف يبدو متفهماً لمشاعر الاستياء التي شعر بها المسلمون بسبب استعمالهم كبيادق جيوسياسية وبسبب الحدود الاعتباطية التي رسمها الأوروبيون، وهو ما جعله يكتب بقدر من التعاطف عن كل الحركات الشعبية التي هزت البلاد الإسلامية تباعاً.
كما يشدد على أن التركة الإيجابية لنهوض التنوير في العالم الإسلامي مازالت موجودة جزئياً. ويرى أن حقيقة أنه كان ثمة ذات يومٍ زمن ٌكان فيه العالم الإسلامي يُقبل على الأفكار والتكنولوجيا الغربية ويتبناها، بشكل ذكي وانتقائي، مع بقائه وفياً لنفسه، مازالت تبعث على الأمل والتفاؤل بالنسبة للكثيرين.
يمكن القول إن كتاب “دي بليج” يقدم أطروحة متفائلة ومضادة لنظرية صراع الحضارات التي تذهب إلى أنه مكتوب على النظرتين الإسلامية والغربية للعالم الصدام الحتمي.
الكتاب: التنوير الإسلامي.. الصراع المعاصر بين الدين والعقل
المؤلف: كريستوفر دي بليج
الناشر: بودلي هيد
تاريخ النشر: 2017