يعدّ علم الصينيات العربي ودراسة الصين المعاصرة من المجالات المعرفية الهامة التي تحظى بإقبال كبير في مختلف الجامعات العالمية، وتشير التعريفات العلمية لهذا المجال إلى أنه ميدان أكاديمي يختص بدراسة الصين، بما فيها اللغة الصينية القديمة، وثقافة الصين، وتاريخها، وأدبها، وفنونها، وعاداتها، وتقاليدها، وفلسفتها، ودينها، كما يشمل التطورات التي طرأت عليها عبر العصور. ولأهمية هذا المجال ورغبة الكاتب العارمة في بلورة الدور الريادي للعرب والمسلمين في تأسيس هذا العلم، سعى الدكتور علي بن غانم الهاجري لإضاءة المكتبات العالمية والعربية بصفة خاصة بهذا الإصدار الجديد كتاب (علم الصينيات العربي ودراسة الصين المعاصرة) مبرزًا فيه كافة مستويات ومجالات العلاقة العربية الصينية، وخصوصا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والعلمية منها.
أهمية الكتاب
ولعل أهمية هذا الإصدار العلمي تكمن في كونه أول دراسة- حسب علمي- يقوم بجولة واسعة عبر مختلف المحطات التاريخية، بدءً بالعلاقات العربية الصينية منذ العصور القديمة، مرورًا بعصر ظهور الإسلام، وانتهاء بالعصر الحديث، وذلك بهدف إبراز دور العرب والمسلمين وجهودهم باعتبارهم المؤسسين الحقيقيين لهذا العلم، وقد أشار هذا الإصدار إلى العلاقات بين الحضارتين القديمتين في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والعلمية وغيرها.
ويقول الكاتب في هذا السياق “من المعروف أن التبادلات الثقافية والتكامل الحضاري بين الحضارة العربية والصينية حدثت عبر آلاف السنين، إذ تحاورت الحضارتان في العديد من المحطات التاريخية منذ العصور القديمة، ومرورا بالعصر الإسلامي، ثم العصر الحديث والمعاصر. وفي سياق هذا الحوار، أُثريت ثقافتنا العربية بالمعرفة الصينية في أوائل العصر الإسلامي، واتسعت آفاق العرب أكثر وأكثر مع مرور الوقت، وبذلك أظهر العرب اهتماما متزايدا بالصين، وإن لم يُسمّ بعلم الصينيات في الأدبيات العربية، ولكن المعرفة العربية التي تكونت عن الصين في بداية العصر الإسلامي هي علم الصينيات بعينه”.
فصول كتاب علم الصينيات العربي
تناول الكاتب علم الصينيات العربي من خلال خمسة فصول :
مصطلح علم الصينيات
عرّف في الفصل الأول بعلم الصينيات ودراسات الصين المعاصرة من حيث ظهور المصطلح، ومفهومه وإشكاليته، وموقعه من العلوم، والفروق الجوهرية في دراسة علم الصينيات بين الغرب والعرب، مشيرا إلى اختلاف وجهات النظر بشأن تاريخ ظهور مصطلح علم الصينيات (Sinology)، بوصفه فرعاً من فروع المعرفة، الذي يتعامل مع اللغة الصينية والموضوعات ذات الصلة في دراسة الصين وفهمه، إلا أن جل الآراء تتفق على أن مصطلح علم الصينيات ظهر في القرن التاسع عشر بينما يكون الاختلافات في تحديد العام الذي ظهر فيه المصطلح.
العلاقات المبكرة بين العرب والصين
ووقف الكاتب في الفصل الثاني على العلاقات المبكرة بين العرب والصين، وخصوصا العلاقات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية، والعلمية. ولعل من أهم النقاط التي أشار إليها الكاتب في هذا الفصل انتقال العلاقات العربية- الصينية بعد الإسلام إلى مرحلة جديدة من الترابط والتوسع والازدهار بعد ظهور الإسلام بوصف العرب قوة كبيرة تتربع على قلب العالم القديم (آسيا، وإفريقيا، وأوروبا) وتسيطر على البحار، وهو الأمر الذي أدركه الصينيون، الذين حرصوا على تكوين علاقات جيدة مع العرب والمسلمين كما هو الحال في العصر العباسي الذي ظلت العلاقات العربية الصينية فيه مزدهرة.
التجار والرحالة العرب
وتناول الكاتب في الفصل الثالث علم الصينيات بنوعيه الرحالة والاحترافي، مشيرا إلى أهمية التُّجار والرحالة العرب في المعرفة بالصين، ومؤكدا بأن الرحّالة العرب يُعتبرون من أوائل الذين درسوا الصين، وقدموا المعلومات القيمة عن الصين وتاريخها وحضارتها، مما أعطى صورة واضحة عن هذا البلد، وتقدّمه الحضاري. كما أبرز الكاتب في هذا الفصل جهود مشاهير الرحالة العرب ووصف كلٍّ منهم للصين، وخصوصًا سليمان التاجر، والمسعودي، والينبوعي، وابن بطوطة، والإدريسي، مع تأكيد أثرهم في تكوين المعرفة العربية بالصين.هذا بالإضافة إلى نقطة أخرى تكلم عنها الكتاب، وهي علم الصينيات الاحترافي الذي يقوم به أشخاص مهتمون بالصين وحضارتها عن طريق الممارسة والخبرة الذاتية، فنتج عن ذلك تمازج اجتماعي بين العرب والصين عن طريق حركة التنقلات بين البلدان العربية والصينية، مما أسهم في نقل المعرفة العربية والإسلامية إلى الصين، كما تم اقتباس المعرفة الصينية لرفد الحضارة العربية والإسلامية بها. هذا بالإضافة إلى ترجمة العديد من المؤلفات العربية والإسلامية إلى الصينية وأعمال أخرى من الصينية إلى العربية والفارسية وغيرها من اللغات، وبذلك أصبح العرب والصينيون يتناقلون المعرفة بينهم.
علم الصينيات المهني
وتحدث الكاتب في الفصل الرابع حول علم الصينيات المهني ودراسات الصين المعاصرة، مشيرًا إلى أنه منذ قيام جمهورية الصين الشعبية في عام (1949) ازداد التقارب بين الصين والعرب يوما بعد يوم، وخصوصا التقارب الثقافي، عن طريق مدّ جسور الثقافة بين العرب والصين، وذلك بإنشاء جمعية الصداقة الصينية العربية عام (2001)، والاتفاق على إقامة منتدى التعاون الصيني- العربي في عام (2004)، لإيجاد أرضية رحبة، لإجراء مزيد من التبادلات والتعاون بين الجانبين، وإقامة آلية للحوار بين الحضارتين (الصينية والعربية) في إطار منتدى التعاون الصيني- العربي، وتنشيط البعثات الدراسية بين الجانبين، وإنشاء العديد من الدول العربية في جامعاتها أقساما متخصصة لدراسة اللغة الصينية، خصوصا جمهورية مصر العربية، ودول المغرب العربي والسودان، دول الخليج العربي والأردن، وإدخال بعض الدول العربية اللغة الصينية في مناهجها للتعليم الابتدائي والثانوي، هذا بالإضافة إلى إدراج بعض الدول العربية الاهتمام باللغة الصينية ضمن خططها التنموية.
رواد علم الصينيات العرب
وركز الكاتب في الفصل الخامس على رُواد علم الصينيات العرب الذين قدّموا إسهامات كبيرة في هذا المجال، وقسمهم إلى ثلاثة أقسام رئيسة:
- رواد علم الصينيات المحترفون، وهم العلماء المهتمون بالصين وحضارتها عن طريق الممارسة والخبرة الذاتية، مثل الطاهر عبد الرحمن فيفة، ومحمود المعموري من تونس، وشوقي جلال عثمان.
- أما الصنف الثاني من رواد علم الصينيات فهم رواد علم الصينيات الدبلوماسيون، وخصوصا الدبلوماسيون العرب الذي قدّموا إسهامات كبيرة في ميدان علم الصينيات، ومن بينهم على سبيل المثال الدكتور جعفر كرار أحمد، دبلوماسي وباحث سوداني، والدكتور علي بن غانم الهاجري (مؤلف هذا الكتاب)، دبلوماسي وباحث قطري، قدم عددا من الإنتاجات العلمية المتميزة حول الصين وحضارتها مثل “الصين في عيون الرحالة”، و”إمبراطور الشرق: تشودي” و”تشنغ خه: إمبراطور البحار الصيني” وكتاب “الفنون في أسرة مينغ”.
- وأما الصنف الثالث فهو رواد علم الصينيات المهنيون، وهم عدد من العلماء العرب الذين تركوا بصماتهم في علم الصينيات ودراسات الصين المعاصرة، وعددهم كبير، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: البروفيسور عبد العزيز حمدي، المترجم المعروف في دائرة الأدب العربي بمصر، والبروفيسور نهلة غريب محمود السيد، أستاذ لغويات اللغة الصينية بكلية الألسن، جامعة عين الشمس، والبروفيسور إبراهيم السيد محمد محمد سلامة عكاشة، أستاذ الأدب الصيني وغيرهم. كما عرّج الكاتب في هذا الفصل على عدد من المراكز البحثية المتخصصة في علم الصينيات ودراسات الصين المعاصرة، منها مركز البحوث والدراسات الصينية المصرية، وبيت الحكمة للثقافة في القاهرة، ومركز دراسات وأبحاث طريق الحرير بجامعة عين الشمس، القاهرة، ومركز الدراسات العربية الأوراسية وغيرها.
تاريخ العلاقات
ومن الجدير بالذكر أن العلاقات العربية الصينية افتتحت فعليًّا في عصر الخلافة الراشدة، وتحديدا في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه (643-655) الذي أُرسلت في عهده سفارتان إلى الصين، وقد ازدادت العلاقات أكثر في عصر الدولة الأموية (661-749) إذ شهدت العلاقات الدبلوماسية بينهما نشاطا لا بأس فيه، كما ما يتضح من عدد السفارات المتبادلة بين الطرفين، إذ بلغت سبع عشرة سفارة، وظلت العلاقات العربية الصينية مزدهرة طوال عصر الدولة العباسية، وتميزت بالعلاقة الودية، وتبادل السفارات والوفود. وبعد سقوط الدولة العباسية كانت هناك علاقات بين الصين والعديد من الدول العربية، فمن تلك الدول الدولة الرسولية (1228-1454) في اليمن، التي ارتبطت بعلاقات متينة مع الصين.
لاشكّ أن الدكتور علي بن غانم الهاجري استطاع في كتابه القيم (علم الصينيات العربي ودراسة الصين المعاصرة) أن يرصد لنا أهم محطات العلاقات العربية الصينية منذ العصور القديمة مرورا بالعصر الإسلامي وانتهاء بالعصر الحديث، مما يجعل الكتاب بمثابة كشكول لا يستغني عنه الباحثون والمثقفون في مجال علم الصينيات ودراسة الصين المعاصرة.