في مكة حرسها الله حيث نشأت، كانت صنعاء حاضرة! كان لأهل اليمن -ولا يزال- وجودٌ ملحوظ وحضور مركزي في تفاصيل الحياة اليومية بمكة، كان منهم جيران لنا، وكان ثمة بقال يمني يدعى بالعم قاسم، لا أدري إن كان لا يزال حياً، ولا أرجح ذلك؛ فقد كان -وأنا بعد طفلٌ لم أبلغ الخامسة بعد، شيخناً متغضن الوجه مهلهل البدن أبيض اللحية، وكان من زملائي في المدرسة ثم في مختلف الأعمال التي مارستها كثيرٌ من أهل اليمن عموماً، ومن المنتمين إلى صنعاء خصوصاً، كنت أسمع الكثير والكثير عن تفاصيل من صنعاء: الجامع الكبير، وباب اليمن، ودار الحجر، والمديريات والحارات و”الجولات”و”الفرزات”، والحمامات، و”السماسر”، وأشياء أخرى.
لم يقدر لي أن أزور صنعاء، لكن بوسع المرء أن يقرأ صنعاء في عالم الكلم المسطور إذا لم يتح له أن يراها في عالم الواقع المنظور.
صافحت صنعاء من خلال قراءة كتاب “تاريخ صنعاء” لإسحاق ابن جرير الطبري الصنعاني، المتوفى سنة ٤٥٠ للهجرة تقريباً، وهو غير الإمام المفسر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ للهجرة.
وهو أقدم كتابٍ أُلف في تاريخ صنعاء كما يقول بعض المحققين، وهو مع الأسف ليس أكثر من توثيق لحال ولاة صنعاء: من ولي منهم ومن عزل وكيف عزل، ومن استولى عليها، ومن قُتل في تلك النزاعات السياسية وكيف قُتل، وهكذا، ولم يتطرق إلا لأقل القليل من الحوادث خارج إطار الحياة السياسية، عدا القليل من الحوادثِ: كالسيل الذي جرف أكثر من ألف دار في صنعاء سنة ٢٦٢ للهجرة، والمجاعة التي حلت بصنعاء سنة ٣٩٧ للهجرة.
لكن ثمة ملحقاً بالكتاب فيه “خطط صنعاء في القرن الرابع الهجري”، يحتوي على وصف لأهم المعالم المعمارية في صنعاء في ذلك العصر: من المساجد والسقايات والحوانيت.. ما يجعل المرء يتصور شيئاً من حال صنعاء في ذلك العهد ولو على سبيل الخيال. لم أستمتع كثيراً بهذا الكتاب، وأرجو أن يسهل الله للتاريخ العتقَ من الوقوف أمام أبواب الولاة، والانسياحَ في الدروب والأزقة، ونقل ما يعيشه الناس في بيوتهم، وما اعتادوه في منتدياتهم.
واستمتعت أكثر بمطالعة كتاب “وصف صنعاء” لجمال الدين علي بن عبدالله بن القاسم الشهاري المتوفى بعد ١١٧٦ للهجرة، وتناول فيها صنعاء من مختلف الجوانب: المساجد، والبيوت، والآبار، وطرز العمارة، وتناول حتى مساحات الدكاكين وأسعار تأجيرها. واستمتعت بنقل المؤلف لحال صنعاء في المساءات الرمضانية، وبعض الأعراف والعادات المجتمعية السائدة في صنعاء.
في عام ١٧٦١ للميلاد أرسلت الدنمارك ستة نفر إلى صنعاء لغرض الاستطلاع والتجسس، وقد هلك خمسة منهم وعاد السادس حياً إلى دياره، وجرى توثيق أحداث تلك الرحلة ومشاهداتها في كتاب يحمل عنوان “من كوبنهاجن إلى صنعاء”، من تأليف توركيل هانسن وترجمة الأديب اليمني محمد الرعدي.
يحكي الكتاب قصةً ملأى بالمفاجآت والمآسي؛ فقد كان أعضاؤها على غير وفاق فيما بينهم، وكان البحر ثائراً، والخصوم الإنغليز يجوبونه بكرة وعشياً، ولما وصلت البعثة أرض اليمن أخذ المرض والموت يتخطفان أعضاءها واحداً واحداً ولم يبق منهم إلا عضو واحد عاد إلى الدنمارك بخيبة كبيرة ومعلومات كثيرة، وكان من الجميل أن تركت هذه المذكرات لنا صورةً باذخة من صنعاء قبل قرنين ونصف من الآن: كانت صنعاء حينها مدينةً سعيدةً، وكانت أسواقها حافلة بالبخور واللبان والبهار وكل ما كان يعده العالم شيئاً نفيساً.
لا يزال الزمان يجري بنا، ونحن الآن في رفقة الرحالة الإيطالي رينزو مانزوني، الذي زار صنعاء في عام ١٨٧٧ ووثق زيارته في كتاب بعنوان: “اليمن.. رحلة إلى صنعاء”.
سافر رينزو من عدن إلى صنعاء على ظهر بغل، ووجدها مدينةً جميلةً، نظيفة، عامرة الأسواق، فيها دكاكين صغيرة مزدحمة، وهي مزدحمة بالجنود الأتراك الذين يعاملون الناس بلطف، ويدخنون السجائر طوال الوقت، والنساء محجبات، والرجال متأنقون…
وصف رينزو مانزوني صنعاء بالتفصيل، على نحو يذكرنا بما صنعه هورخرونيه حين زار مكة المكرمة. وجدتُ القراءة في هذا الكتاب ماتعة جداً، أمتع مما سبق، وأكثر واقعيةً مما سيأتي!
الآن ينتهي دور الحقائق ويأتي دور الخيال!
لم تحضر صنعاء كثيراً في الرواية العربية، ولكنها لم تغب بالكلية؛ فقد صدرت في سبعينيات القرن العشرين رواية تحمل عنوان “صنعاء مدينة مفتوحة” لمحمد عبدالولي، يتجول بطلها بين قريته وبين صنعاء وعدن وزبيد، وتنقل الرواية صوراً قاتمة من اليمن بعد عقود من الإهمال الإداري واستئثار الأسرة الحاكمة “آل حميد الدين” بالثروات والمقدرات، ومعاداتهم للعلم وأهله كما تصور الرواية: حيث شاع الفقر والجوع، وغُلقت المدارس، وعاش العلماء بين الجوع والخوف، واقتيد بعضهم إلى الزنازين…
والمفارقة أن الرواية صدرت في عهد الجمهورية، وهي تتناول الحقبة الملكية، ولكن هذا لم يحل دون حظر نشر الرواية في اليمن!
وصدرت مؤخراً رواية تحمل عنوان “الثائر” للروائي محمد الغربي، وهي تتناول أيضاً السنوات الأخيرة من حقبة الحكم الإمامي في اليمن قبل ثورة ١٩٦٢ التي آذنت بأفول العهد الملكي وطلوع العهد الجمهوري.
يدعى بطل الرواية “شيزان”، وهو ابن لعائلة منكوبة، منزل يُحرق، وأم تتهم في شرفها، وابن تائه عنها يهيم على وجهه باحثاً عن أمه، يتنقل في البلدان، ويتنكر في زي فتاةٍ أثناء حربه الشخصية التي شنها ضد الوضع القائم في اليمن آنذاك.
ولا يمكن للحديث عن صنعاء أن ينقضي قبل الإشارة إلى شاعرين تغنيا بصنعاء: غادر أحدهما الحياة ولا يزال الآخر يرسف في قيدها.
أما الراحل فهو عبدالله البردوني، الذي أحب صنعاء وحزن عليها معاً، وحمل شعره عنها الكثير من الحب، والكثير من الرثاء والسخرية المرة معاً! إذ يقول عنها:
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
مليحة عاشقاها السل والجرب
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن
ولم يمت في حشاها العشق والطربُ
ويقول:
أيا صنعا.. متى تأتين
من تابوتك العفن
تسائلني؟ أتدري؟ فات
قبل مجيئه زمني
متى آتي؟ ألا تدري
إلى أين انثنت سفني؟!
لقد عادت من الآتي
إلى تاريخها الوثني!
أما الشاعر الذي لا يزال حياً؛ فهو عبدالعزيز المقالح، الثمانيني المحب لصنعاء، والذي قال لها ذات يوم مغنياً:
يوماً تغنى في منافينا القدر
لا بد من صنعا وإن طال السفر
لا بد منها، حبنا… أشواقها
تدوي حوالينا “إلى أين المفر؟!”
إنا حملنا حزنها وجراحها
تحت الجفون فأورقت وزكى الثمر
تستحق صنعاءُ الكثير، تستحق عيشة آمنةً، وسلاماً شاملاً، وتستحق كذلك أقلاماً أكثر، ترسم لنا عنها صوراً ملونةً بهيجة.